قراءة في ديوان (صوت بلا صدى) للشاعر سعيد جاسم الزبيدي


عباس أمير/ العراق
abbasameir@gmail.com

التصادي النصّيّ: هجرة الشعر، واغتراب الشاعر
ترى، هل يصلح الفعل الشعري أن يكون حلا، وهل يستطيع الصوت أن يؤسّس لوجوده، وليس ثمّة صدى له؟
وهل يلبي بنيان النص للمصاحبات الدلالية حاجة الشاعر للطمأنينة التي عدِمها بانعدام صدى صوته؟
وما مقدار حالة الاغتراب التي يستشعرها الشاعر، وهو لا يسمع لصوته صداه؟
وهل يكشف إشكال أن يكون الصوت بلا صدى عن علاقة قلقة بالمكان والزمان، خاصّة وأن ارتداد الموجة الصوتية مشروط بوجود  وسط صلب يسبب ارتطام الصوت به انعكاس تلك الموجة وعودتها إلى نقطة انطلاقها؟
وعلى الطرف الآخر، هل يسهم ذلك الخرق الفيزيائي لنواميس الواقع، حيث الصوت بلا صدى، هل يسهم في تعميق البنية الدلالية والإيحائية للنص الذي يؤكّد انتماء الشاعر إلى ذاته، بكل ما لتلك الذات من خزين سيكولوجي وقيَمي وتراثي؟
وهل يصلح فقدان الصوت صداه، ضمن العالم البديل للواقع، في التأسيس لمدخل نفسي، تتكئ بموجبه الذات على ذاكرتها، الاتكاء الذي يجعل منها صدى عاكسا لذلك الفقدان، فيصير الصوت بلا صدى اختيارا بليغا، وإن كان بالغا في وجعه حدّ الاغتراب؟
  ليس ثمّة مهيمن أسلوبيّ كمهيمنة (التصادي النصّيّ) أو (تداخل النصوص)، تزخر به مجموعة (صوت بلا صدى)، ولعلّنا إذا ما تتبعناه، بالقدر الذي يسمح به المقام،  انكشف لنا ما ينتقل بالصوت الذي بلا صدى، من بنيته الفيزيائية المجرّدة إلى بنيته الشعرية الضاجّة بصداها الأليم، ثم ما يجعل منه، وهو بلا صدى، أبلغ منه، وقد ارتطم في وسط لا يدري صاحبه كيف يستخلصه من شوبه الذي يسدّ عليه مذاهبه إلا أن يعيده رديدَ تخليط المشاعر، واشتداد الغمّ والهمّ. يقول الشاعر، في نصّه الذي جعل من عنوانه عنوان المجموعة كلّها؛
هل تدركُ أنّ الصوتَ إذا يمتدّ
بغير صدى
أبلغُ منهُ
إذا يرجعْ !
  أما لماذا، الصوت بلا صدى أبلغ، فذاك لأن صدى مَن (خطوته أتعبَها المدى، وظلّه انحنى)، صدى القافلة التي رجز الحادي خلفها عقودها، بما يشفّ عن صوت متعب، لا يستدرك على الصوت ما فاته بيانه من أمل وطمأنينة، فهو غير أمين في ترديد صوت الشاعر الستّينيّ الخطى؛
ولم أشأْ أنْ أُسمِعَكْ:
يا ولدي،
       وصايا،
             فيرجعَ الصدى:
وهل لديكَ من حطام العاجله
غبرَ قصاصات وثمَّ مكتبه
وبعضُ صيتٍ
             يوم تحدو القافله
  أو، لأن ارتداد الصوت ورجيعه يكشف عن ضلالة مؤلمة تتسكّع المشاعر عند شبّاكها المغلق، وهي تعلن عن صوت يمشي بلا ظلّ يدلّ عليه، يبحث عن الحقيقة؛
أمّاهُ،
     وارتدّ الصدى !
   إذ أغلقتْ شبّاكها خجلاً وفيقة*
خوفَ العيونِ، وهاجسٍ أنْ ضلَّ مَنْ تهوى طريقَهْ !
وأنا ضللتُ !
          وبي سؤالٌ دوَّخ الدنيا يُردّدُ: ما الحقيقه ؟!
أ لأنني أمشي بلا ظلٍّ يدلّ عليّ أم أني الدليلْ ؟
قولي،
     فكم عَلِقَتْ بنا قالٌ وقيلْ
  وقد، لأن الصوت صُمَّ صداه، فيردّ الشاعر عليه، كاشفا عن مرارة أن يُصادي الشاعر ما يقلقه بما يزيده قلقا فيرجو من الآخر الذي غيّبه الردى أن يكون صدى. يقول مخاطبا الراحل محمود البريكان؛
 محمودُ...!
             وانقطع الصدى،
فهلِ الردى
       ذئبٌ ترصّدني* فَحالْ،
بيني وبينَكَ ؟
هل أغاظتْهُ القصيدةُ عرَّشَتْ مثلَ الدوالْ ؟!
  وهكذا، يرجع الصدى بـ(حطام المشاعر ورجز الحادي) مرة، و (يرتدّ بالضلالة) مرة أخرى، و (يقطعه الردى) ثالثة. وعلى هذا، يبدو الخيار المرّ، أن يمتدّ الصوت في الداخل المتعب لا يلوي على صدى غير صدى تلك المفردات التي تمتح الأسى المرير من بئر تلك الكينونة الصائتة، فلكل مفردة هناك صدى، ولكل صدى حمولة تميل به إلى مزيد من التعب وتثقل الصوت بشحنة نفسية فائضة تدعو إلى مقاربة.  
لازمتني مفرداتٌ،
              أصبحت عينا بها أُعنَى وأشربْ !
حيثُ أذهبْ،
         ربّما صارتْ:
                   أساريري،
                   وهندامي،
                   وأشيائي
                      التي تصحبُ (فنجاني) بمكتبْ !
عطّرت (معجمَ شعري)،
                     طرّزتْه باسمها
                      ونعوتٍ بجناحين تحلّقْ،
                       وتصفّقْ،
ليتَ شعري...
                      لستُ أدري:
أأنا جذلانُ إذ أسعى بها
                      أم كنت متعَبْ ؟!
  وعلى هذا النحو، وبتأثير من ضروراته النفسية والمجتمعية، يستدعي الشاعر مفردات ذات حمولة رمزية تاريخية ودينية وفنية، تستبين أنحاؤها  عبر نصوص مجموعته، من خلال تقنية التصادي النصيّ، فيؤسس بذلك لكينونته صوتا، أو يؤسس لكينونة تلك الأصوات صدى أمينا على صوته المتعب، ليشيّد بذلك التصادي حوارا مع الآخر، ولكن عبر فضاءات النصوص. يقول، وهو يستدعي صورة الآخر من خلال الشاعر الراحل محمود البريكان؛
محمودُ،هل تدري صباحات الموانئِ لم تَعُدْ فيها نوارسُ أشبهتْ ليلَ اللصوصْ !
عذراً إليكَ إذا غدَتْ ما بيننا الجسرَ النصّوصْ !
لم يستطعْ حتى الردى
أنْ يستطيلَ عليك، يُلغي موعدا !
محمودُ...
        مُدَّ لنا يدا
  فالنصوص (جسر)،يعبر الشاعر عليه، مضطرا، إلى الغياب الذي ما إن امتدّ إليه صوت الشاعر بعنان وجعه وغربته، حتى حال الردى بين الشاعر ومراده؛ (وانقطع الصدى).
  إن (تجسير) المسافة بين الحاضر والغائب، بوساطة النصوص يعني أن تتصادى النصوص، على اختلاف قائليها وأزمنتها، التصادي الذي يجعل من سعي الشاعر إلى دمجها بعضها في بعض ظاهرة ديناميكية تجعل من الغربة والاغتراب ميدانا للاندماج. وعلى هذا الأساس تصير تقنية (التداخل النصيّ) شرطا نفسيا ضروريا ونسقا فنيا مهما تستبين بموجبه العلاقة بين تناصّات الوعي من جهة وتناصّات النصوص من جهة أخرى. ويصير استدعاء النصوص مطلبا قائما برأسه، فهو ليس مقصدا فنيا قدر ما هو مطلب وجوديّ، تستعيد الذات ضمن فضائه الفنيّ (آخر)ــــــها الغائب، وهي تهاجر إليه لتحاوره في ما يتجاوز اللحظة التاريخية التي عاشها النص الغائب، والأخرى التي يعيشها صاحب النصّ المهاجر. يقول الشاعر، في قصيدة وسمها بـ(أخا النقد)، مؤكدا هذه الحقيقة؛
عصيٌّ عليَّ الشعرُ لو أنصفَ النقد
من القربِ أستوحي، ويخذلني البُعْدُ
فأنفاسه تذكي الرؤى، فتزورني
جناحَ فراشاتٍ يغرّرُها وقدُ
فأطربُ لا من صورةٍ قد رسمتُها
 بإيقاعها تجري القوافي، وترتدُّ
إلى أن يقول؛
ولكنّها رقمٌ على الماءِ، لا تني
يُجرِّرُها (جزرٌ) ويطردها (مدُّ)
وأكثرُ من ذا أن تحومَ حمامةٌ
على وكرها الغربيِّ مفردةٍ تشدو
  ويقول، في قصيدة (قد أتقن القراءة)، مستدعيا قول الشاعر التركي ناظم حكمت، ((يا لحياة المنفى من مهنة شاقة))؛
فأيّما شعرٍ هنا استدعيت
وأيّما لُقِّنْتُ واستقريت
ففيَّ بعضُ هاجسٍ يُطيلُ ليل الغربة
فيا لها من مهنة للنخبة !

  ولعلّ الشاعر، وهو يهاجر من أرض إلى أخرى، تاركا خلفه ما لا ينبغي تركه أحيانا، ثم وهو يهاجر من شخص إلى آخر، تاركا خلفه ما ينبغي تركه، هذه المرة، قد عكس تجربته في الحياة في شعره، فصار نصّه الشعري صداه البليغ، وصار اغترابه فضاء لعواطفه ورؤاه ومخيّلته، وهذ ما يفسّر لنا تسلّل نصوص، أو أسماء، (قابيل، ابن الملجم، المتنبي، أيّوب، ابن زيدون، قطري بن الفجاءة، الخنساء، ناظم حكمت، أبو العتاهية، مظفر النوّاب، ابن الرومي، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، يوسف، الجواهري...).
  إن تلك المرجعية النصية متمثلة برموزها وأقنعتها وشخصياتها المختلفة تشكّل مظهرا من مظاهر السياق النفسي الذي نسج قصائد المجموعة، وبالقدر نفسه، تشكّل تلك المرجعية جنبة رئيسة من جنبات سياق التلقي. وللحالتين كلتيهما، يبدو التصادي النصي وتداخل النصوص نفيا أو تغييبا كليا مرة، ومتوازيا ثانية، ويبدو جزئيا ثالثة، مع مراعاة استمرارية النص الغائب متوهجا، ودونما أن يفقد النص الحاضر توهجّه الفنّي وفرادته الأسلوبية. فالشاعر، وهو يهاجر بنصّه إلى تلك النصوص الموغلة الأسى، لا يضحّي بنسيجه الشعري الذي تمدّه تجربة الشاعر  بميزته الخاصّة. هاهو، على سبيل المثال، يعيد كتابة الجواهري المغترب وهو يرثي الحسين بن علي (عليه السلام)، بعينيّته الشهيرة، التي مطلعها؛
فِدَاءً  لمثواكَ  من   مَضْــجَعِ
تَنَـوَّرَ    بالأبلَـجِ     الأروَعِ
فيقول، جاعلا من أمّه، فضاءه الي يبث من على شرفاته أساه وألمه، ويستلهم بدليل منها النصّ الغائب، ولكن على وفق ما تتطلبه تجربته الخاصة ووعيه الفني الذي يمتصّ النصّ ويترشّفه، فيطنب في استدعاء أجواء النصّ وإيقاعه الداخلي وتجربته وقافيته، فيقول؛
فديتُكَ من متعبٍ، موجعِ
توقَّفْ، وسلْ لاهثَ الأضلعِ
توسَّدتَهُ مُذْ رفيفِ الجفون
 نعمْتَ به طيّبَ المهجَعِ
  وقد  يلجأ الشاعر إلى شكل آخر من أشكال التناصّ،  يوسّع بموجبه النصّ الغائب من خلال آلية الاستعارة، فيمنح النص بتلك الآليّة حيوية خاصة على المستوى التعبيري. يقول؛
ستّين، أمشي على الأشواك حافيةً
رجلي، وأخرى تلظّى في احتراقاتي
فغربة بين أترابي، وفي وطني
 وغربة تذرع الأقطار مأساتي
وبين تلك وهذي يستحيل دمي
فحما، وتنكفئُ الآمال في ذاتي
وها هو يستدعي عبدالرحمن الداخل، ونخلته التي أشجته في قرطبة، فيقول؛
فهاتِ ما يمنح العينين نافذةً
 تُدني برغم التنائي نخلة الدار
أبثُّها ما به ضاقت جوانحنا
ولم تُطقْها غداةَ البوحِ أوتاري

  وآخر القول، إن روافد (صوت بلا صدى)، وآليّات إجرائها في تربة النصّ، وهي تستدعي النصوص الغائبة، وترتشف أنساقها البنائية وتتصادى مع تجارب قائليها، من حيث هي تعبير فني أو من حيث فضاء تحتشد فيه الأمكنة والشخوص والوقائع والعواطف والمواقف، لم تزاحم نصوص المجموعة، موضع القراءة، على شفوفها، ولم تفقدها هويّتها الفنية، وذلك لأن مقصد الشاعر من استدعاء تلك النصوص هو العدول بوجهة الدلالة الشعرية من النص إلى خارج النص، لا لأجل الوصول إلى النصّ الغائب وشخوصه بل لأجل الكشف عن رغبة في مشاركة الشاعر وعيه ومعاناته المتمثلة بفقدان الذات ل(الآخر) الإنساني، حيث صوت الذات بلا صدى ولأن الشاعر (يمشي بلا ظلّ يدُلّ عليه).
..............
هامش:
.......
صوت بلا صدى، سعيد جاسم الزبيدي، كنوز المعرفة، عمّان- الأردن، ط1، 2010
       
 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك