العَبَّاسَة كنافذةٍ مُطِلَّة على رَحَابَةِ المَاهيَّة الشِّعريَّة


جوانا إحسان أبلحد | شاعرة وناقدة عراقية مقيمة في ملبورن - استراليا

(الرسمُ شِعرٌ صَامِتٌ والشِعرُ رَسْمٌ مُتكَلِّم)، هذا ما قالهُ الفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخ..وقولهُ هذا التمَعَ بفِكري عندما كنتُ ساهمة بالضربات اللونية لتلك الريشة الشِعريَّة التي شكَّلَتْ لوحات " العبَّاسَة " للشاعر المصري القدير محمود حسن.
أعتقد هناك لون وعَبَق ينْسَلَّان مِنْ النتاج الشِعري إلى حواسِ الذائقة المُسْتأنِسَة بهِ..وأراني سأغضُّ المَجَاز عَنْ ماهية اللون المُراد بهِ اصطباغ فعل التلقي لقصائد العبَّاسَة أو تركيبة العَبَق في قارورة الدلالات العبَّاسيَّة لأني دائماً أحبُّ ممارسة شيء مِنْ الشغب النقدي يتمَثَّلُ بعدم الإفصاح الكامل عَنْ كُلِّ خلجة نقدية تُداعبُ جبيني تجنُّباً للإسهاب اللغوي والرؤيوي المقرونيْن بالتصريح الذي يُصادر جدوى / جمال التلميح لذائقة المتلقي في عصر الألفية الذكية ورغبتي الودودة بمشاركته في العملية النقدية مِنْ خلال خلق نافذة تطلُّ بهِ على أُفق الاستبطان الماتع / الناجع لخلجتي النقدية عَنْ هذه الدلالة الشِّعرية أو تلك..وعليه لَنْ أذكرَ ماهية اللون أو تركيبة العبق اللذان انسَلَّا إلى حواس ذائقتي.. وكان هودج اطلاعي يتهادى رهواً على سهولِ العبَّاسَة.
تتمظهر العَبَّاسَة بأطوارها الوجدانية المختلفة وذلك لتبايُن شخوصها وشؤونها على مَرِّ قصائدها والتي يروق لي أن أُسميها الحُلِي الشِعريَّة والمُكَوَّنة مِنْ ثلاث عشرة قطعة حَرَصَتْ العبَّاسة على ارتدائِها بطريقة مشهدية في مناسبات موضوعاتها المختلفة ، لكن رنَّة هذه الحُلي جاءتْ نفسها بجميع القطع ، بهذا الخلخال أو ذاك السوار..إلخ القطع الثلاثة عشر. وعلى سبيل الشغب النقدي الذي ذكرتُهُ أعلاه لَنْ أُفصِحَ عن هذه الرنَّة وسأتركها لاستبطان الذوائق وأولهم مبدع النتاج نفسه باعتباره المتلقي المهتم - بالأعمق- بأيِّ رؤيا نقدية عن نتاجهِ.
تشابُه/ تواتُر هذهِ الرنَّة الرؤيوية بكُلِّ الحُلي شَكَّلَ وَحْدة الغائية لكُليَّة العَبَّاسة بالرغم مِنْ كُلِّ قصيدة أو حُلية جاءتْ تختلف بالسَبْك اللغوي والقالب التصويري عَنْ الحُلية الأخرى بطريقة تتوارى..تبين.
الأداة المشهدية تمَّ استخدامها أكثر مِنْ غيرها في صياغة مجموع القطع وبآلية درامية جَعَلَتْ كُلَّ صورة تتوالد/ تتنامى مِنْ سابقتها بطريقة البناء المتنامي حتى اكتمال كل قطعة (كل حُلية) على شكلها الأبلغ وَ الأبهى فالتزيُّن بها في مناسبتها الخاصة والمختلفة عن مناسبتها الأخرى (موضوع القصيدة الأخرى) بديناميكية لافتة على مستوى الماهية الشِعرية !
كأن هناك قطع/ حُلِي تلبسها العبَّاسَة بمناسبة سارَّة على حين الوَجْد وأحضان الأخيلة الدافئة حيثُ لَدَانة الماهية الشِعرية والحدث الشِعري الشفيف فالتورية الرائقة بلغةٍ شِعرية مُحَبَّبة حتى أواخر الروي بقافية مؤنسة تتناهى إلى مَسْمَعِ الذائقة بأصوات شعورية ماتعة.
وعلى النقيض أعلاه ، هناك قطع / حُلِي تلبسها العَبَّاسة بمناسبة جَلَل على حين الترح والعويل ونطالع الماهية الشِعرية فيها إما واجمة أو مكلومة أو دامية أو مذبوحة..لذلك نراها محفوفة بالكنايات القاسية وتحت قبة اللغة المُباشِرة ببعض المقاطع..حتى القافية هُنا تتساوق مع جَلَبَةِ العويل الرؤيوي وكأني بها جرَّة آهات تتكسَّرُ عِندَ عتبة كل قافية ، لما لها مِنْ انعتاق أو احتراق لفعل الآه على مستوى ملفوظها.
وأراني أيضاً سأترك للمارَّة ممارسة فعل التفريق اللغوي/ التصويري بين القصائد (الحُلي) وفق التصنيفيْن أعلاه..لعدم رغبتي بوضع أمثلة سافرة عَنْ نوعية كُلِّ قطعة أو حُلية..
يقول الشاعر والأديب المكسيكي أكتافيو باث : (لا يمكن أن يوجد مجتمع دون شِعر، لكن المجتمع لا يمكن أن يتحَقَّق على هيئة شِعر)، أعتقد لايختلف اثنان مع صحة هذا القول على أرض الواقع، لكن برأيي استطاعَ الشاعر أن يُحقِّق ذلك المجتمع شِعراً..ذلك المجتمع الغابر ذو الحقبة العباسية تمَّ إحياؤه شِعراً بزمن الألفية الثالثة..أجل عشناهُ شِعراً حصيفاً وبحيوات تأملية / تخييلية تتبياين حالاتها الشعورية كمحاولة قادرة/ قاهرة مِنْ الشاعر بتحقيق ذلك المجتمع شِعراً بصورة شمولية لجميع دلالاته ورموزه ثم إسقاطها على مجتمعهِ الحاضر والأكبر والمُتمَثِّل بالأمة العربية.
القدير محمود حسن هذا الشاعر المُعَنَّى/ المُعَلَّى بتوظيف الرموز التاريخية والدينية على مَرِّ شِعرهِ النجيب أراهُ هُنا قد انتقى محارة تاريخية فاخرة جداً ومكنونها الإبداعي جاءَ جسيماً وجليلاً في آن.
............
هامش:
رؤيتي النقدية لديوان ( العبَّاسة ) للشاعر المصري القدير محمود حسين والتي جاءتْ في كانون الأول 2018 ، أستأذن ذوائقكم الطيبة بنشرها في حسابي الفيسبوك لأول مرَّة.

 

تعليق عبر الفيس بوك