قصة قصيرة: وطنٌ و أمٌّ .. عاريان


أريج سعود | سوريا

عيدُ ميلادها السّادس ، أقدمُ شيءٍ تلفظُه ذاكرتها بلحظات الحزن أو الفرح وكأنّما له على شعورها ولاية .
تلك الشّريطة الزّهريّة اللّون هذه المرّة، هي سببُ استحضاره على الأرجح ..اختلط على عقلها الأمرُ هل هي ذاكرتُها من تدندنُ بصوتِ والدتها " سنة حلوة يا جميل " ؟ أم ذاكرةُ اللّحظِ الأسودِ تطالبُها بالرَّدِّ الفوريّ على الهاتف النّقّال ، هل تعلم تَعدادَ السّاعاتِ الباقيةِ على ولادتها من جديدٍ فترفضُ قطْعَ أغنيتها الأقدمِ في ذاكرةِ الطُّفولةِ التي لن تُعاد ..؟
لم يَعُدْ هناكَ متّسَعٌ منَ الوقتِ ، لا داعي لاختيارِ القُمْصانِ و السُّترات ، فالوطنُ لا ينسِّقُ ألوانَ ملابسِه، يسيرُ حافياً و ينام عارياً دون خوف ، يفتح ذراعيه على القدرةِ الأقصى لاحتواءِ اللّون ، لكنّهُ مغسولٌ بفطرته بعُريٍّ عن الأقنعةِ الملأى بها وجوهُ أبنائِه..
إلّا قميصُها الأزرق ، هديَّة أمّها!
لن تتركه هنا يحترقُ أو يُغتَصَب..
تسارعت أصابعُها باللّملمةِ وكأنّما الأشياء تتوسّلها، فتؤلمها أكثر
" لا تترُكينا هنا و نحنُ أيضاً ، يحقُّ لنا ألّا نُغتصَب "..تبّاً لصوتِ الأشياءِ الخرساءِ عندما تتقنُ ببراعةٍ فنَّ النُّطقِ وَ فجأةً ، بِما نريد قولَه و لا نجرؤ..
بسرعةٍ قصوى أسكتتْ كلَّ الأصواتِ و تناولت غطاءَ طفلِها السّميك و دثّرتْهُ به في سريره ، وقتها لم تكن قويّةً بما يكفي لتمنعَ دمعتينِ أو أكثرَ من الهروبِ لملاقاةِ كلّ المكانِ الّذي سَتترك..
نصفُ البيتِ الآخر لا يمكنُ حملُه في حقيبة ، لكنّ العينَ تَسَعُ و تَسَعُ أكثرَ عندما يتلوّن الشّيءُ بشفاهِ مَن نحبُّ
و وجنةِ ابنتها الّتي علمَتْ لونهما مُذ كانت في رحمها تلهو ، يومَ تلطّختا بالموت لم تعد تضيقُ على صغرها عينُها ، عن احتواءِ الأمكنةِ كما الذّكريات ...
جعلتْ على ظهرها حقيبتَها بيد امرأةٍ تعرف كيف تطهو لعائلتها الحبّ،
و حملت طفلها بيديّ أمٍّ تيقّنت للتوّ أنّ الرّجولة حكرٌ على الحبّ الذي يتعرّى به الوطن ..
تشبّثتْ به كالحلم ، كانت عروق يديها بارزةً فيضَ أمومةٍ ورجولة..و الرّئتان في الصِّدر ، واحدةٌ منهما كفيلةٌ بتنفُّسِ البيت المحترق للمرّة الأخيرةِ رغم الدّخان الذي بقي خارجاً...هكذا فقط حملت في صدرها خمس سنواتٍ من سعادةٍ استحالت جثّةً يصعب استيعاب لونها و ركضت دون ساقيها...
الطريق الموصل الى الجهة الأخرى من المدينة المشتعلة يحتاج منها قلبين لانهائه قبل أن تصير رقماً مع البيوت و الدّمار حيث لا ينفع عدّاد الاختناق.
لم تقدر على التّوقّف حتّى صارت فلذات الأرض تحت قدميها جزءاً منها لا ينفصل مع الريح،
لاح لها خيال أمّها من بعيدٍ تنتظر..أسرعت أكثر و النّبض يسابق الزّمنَ بقدرها ..
شعرت بسيلٍ من روحها يفيض فوق الجسد برودةً و قشعريرة ، روائح زهر الّليمون و البرسيم تعانق العمر وكأنّما اجتمعت الفصول في لحظة انعتاقٍ من توقيت الكون ...
لربّما عادت إلى الطّفولة حيث السّادسةُ تفي بالحياة و التّحليق الأعلى ،
الحرائق أين الحرائق ؟ أين أشلاءُ الموت الّتي كانت الطّريق ؟
طفلها ينام قربها تحت فيء روحها البيضاء ، لم تجرّب لمسه بخوفٍ غريب، هناك أمّها لا تزال تقف ، لا تقتربُ و لا تبتعد
نصف البيت امتلأ بالأطفال والدّمى المرتّبة
و دويُّ الصّوتِ الّذي سمعت نصفه على ما اعتقدت لم تشعر به أكثر من وخزةٍ صغيرة و انتهى الوقت...
حملها برعما ليمونٍ من خصرها إلى أعلى
لم تحْتَجْ أكثر منهما لتصير المدينةُ تحت ناظريها حلماً تعرّى من الموت
صارت أمّاً كالوطن .. شبعت من الموت حتى تعرّت من أيّ لون ، هي كالوطن لم تعد تحتاج الألوان و لا تفكّر بعد الآن بتنسيقها...و كالوطن أيضاً أحاطت غطاء طفلها السّميك تحمي نبضه الصّغير ، تبقيه على قيد اللّون
ثمّ حلّقت عارية ..
و أمّها بقيت هناك مُشبعةً بالموت ، غيرَ مشبعةٍ أمومةً ، فالطّفل بين ذراعيها محميٌّ بشريطٍ مزخرفٍ و قميصٍ أزرق كان ذات فرح عيدٍ ، هديّتها لابنتها الوطن ... !!!!!

 

تعليق عبر الفيس بوك