"ضيفُ" عاش فيها "ضيفا" ورحل


عبد الوهاب شعبان | مصر – صحفي بجريدة الوفد المصرية

كنّا صغارًا تحملنا فورة المراهقة على التمرد، والسخرية من كل شيء، بلا رجفة من الخروج عن صف القطيع، ولا خضوع لابتزاز عاطفي جارف، ولا حسابات للأنياب المدببة المجهزة للنهش، وحولنا خضار ريفي قاوم قدر استطاعته كتل الأسمنت التي طوقت المدينة، فاستحالت شوارعها إلى ممرات للكآبة، ومصدر للاكتئاب.
وكانت مدرسة أطفيح الثانوية بنين رواقًا تنسكب على جانبيه عطور أزمنة يافعة، وارفة ظلاله، ودانية قطوف أشجاره الباسقة، وخليط من أساتذة، وعمال مطبوعون في ذاكرة القيمة، والقدوة، يأخذنا الحنين إليها، وإليهم كلما مررنا على أطلالها، واستمرأنا خيبات ما يجري في محيطنا.

(1)
ثم كان "الضيف".
اسم غريب على أسماعنا - وقتئذٍ- لشخص عريض الجبهة، يعاني التواءً في ساقه اليمنى، وذي بسمة نضرة تشي بخجل القادم الجديد لمكان عمل ما، تبدأ الفسحة فننصرف إليه مهرولين، وعلى شبابه البائن كنّا نناديه "عم ضيف"- لازمة تقال للعُمال أيًا كان سنهم على سبيل الاحترام، ونتسابق في شراء "الماندولين"- كرفاهية استثنائية بعد ساندوتش الطعمية الثابت، ونبدي ما اشتهينا من غرائز السخرية، والتهريج، والاستظراف القاتم، فيجارينا ويبتسم.
والمدرسة على تكوينها الذي يشبه حرف (u) كانت تضم ثلاثة مبان، أحدهم عن يمينك حال دخولك من بابها الرئيسي، والآخر عن يسارك، وثالثهم في مواجهتك، وعلى جانبي الباب حديقة أخضر لونها تسر الناظرين، ثم مصلى، وعلى امتدادهما فناؤها كرمز للبراح.
وتمضي الساعات بين أروقتها مراوحة بين البهجة، والصفاء، صفاء ذهني كامل يصنعه الأساتذة، وبهجة مطبوعة في الزملاء..

(2)
ما الذي يدفعنا إلى الحنين، سوى قرع الموت طبوله عبر السنين؟
فجأة قيل إن عم ضيف مات، فهاجت الذاكرة، وطار الفؤاد لـلأساتذة "فتحي جودة- محمد النادي- أحمد عبد الحميد- كامل عبدالعظيم"- رحمة الله عليهم-، وغيرهم ممن باعدت بيننا وبينهم المسافات، واستسلمت علاقاتنا بهم لخريف مقيم، يسقط ما يشاء من أوراق، على أرضية التيه الحياتي المقزز.
عم ضيف يشبه إلى حد كبير عم رشاد أبوالعينين- رحمة الله عليهما -، الأخير كنا شهودًا على حالة حب استثنائية بينه وبين المدرسة، يأتيها باكرًا، يفتح بابها، ويضع قبلة صباحية على جبينها، كعلاقة الأب بالبنين، يقلم أظافرها، يمشط شعرها، ويعدها لاستقبال الزائرين، ثم ينتظر انتهاء الزيارة، ليودعها بذات القدر من الاهتمام، ويغادر على جناح الشوق، لا يتأفف، ولا يريها ضجرًا وهو يستنشق ترابها.
وورث الضيف حب الجميلة، وغادرها مقتطعًا برحيله جزءًا غاليًا من ذاكرتها.

(3)
ولا يلومني صديقي أحمد عيد معوض في تسطير المشاعر، إن الفقد كالركض خلف اللاشيء، يفرغ الأفئدة، ويعزز الغربة.
رحم الله الأساتذة، والطيبين عم ضيف، وعم رشاد أبو العينين، وحفظ الله الأحياء من آبائنا العظام
وداعًا رقيقًا أيها الضيف

 

تعليق عبر الفيس بوك