منظومة تشريعية محفزة للاستثمار

حاتم الطائي

< الرعاية السامية ضمنت تحقيق أهداف التنمية المستدامة وعززت حجم الإنجازات الوطنية

< القوانين الاقتصادية الجديدة تضع المواطن أمام إدراك واعٍ بترسخ أركان دولة المؤسسات والقانون

< بدخول التشريعات الأخيرة حيز التطبيق تكون البيئة المحفزة للاستثمار قد اكتملت

 

يومًا تلو الآخر.. تترسَّخُ أركان الدولة العصرية العُمانية، دولة المؤسسات والقانون، محفوفةً برعاية سامية من لدن مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في كَنَفِ منظومةٍ تشريعية شاملةٍ، ومُواكِبةٍ للمتغيرات، ولكلِّ مُستجدِّ على ساحة النَّماء ومسيرة الازدهار الوطنيِّ، بحرصٍ بالغٍ على تحقيق أعلى مَعَايير ومُعدَّلات الاستفادة الوطنية؛ فمُنذ انطلاقة مسيرة الخير، والمُشرِّع العُماني لا تحيد دفَّتُه عن إرساء دعائم دَفْع عجلة التنمية نحو مرافئ التقدُّم والرخاء؛ من أجل أن يتحقَّق للوطن ما كان يصبو إليه منذ انبلاج فجر النهضة، خلف قيادة حكيمة أرداتْ أن تبني عُمان الحديثة.

وهو عَيْنُ ما تَوافرت عليه القوانين الاقتصادية الأخيرة التي صدرتْ بمُباركةٍ سامية لتُجسِّد المعنًى الحقيقي لترسُّخ أركان دولة المؤسسات والقانون؛ خصوصاً إذا قُرئت في سياقها الإجرائي والزماني.. فالتشريعات الجديدة صدرتْ بعد أن مرَّت بالقنوات الرسمية التي حدَّدها النظام الأساسي للدولة؛ فقوانين استثمار رأس المال الأجنبي، والتخصيص، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، والإفلاس؛ كلها أُحيلت من مجلس الوزراء الموقر إلى مجلس عُمان، ومن ثمَّ قام مجلس عُمان -بجناحيه الدولة والشورى- بتدارُس القوانين ومناقشتها عبر اللجان المختصة، ثم تمَّ طرحها في جلسات عامة أمام الجميع، وقد قام الأعضاء في كلا المجلسين بإبداء الملاحظات على مشاريع القوانين التي عُرضت عليهم، وتم إعداد لجان مشتركة بين المجلسين لحسم مواد التباين فيما يتعلق بهذه القوانين، ونجحت هذه اللجان في الوصول لصيغة تفاهمية تمزجُ بين أفضل الآراء والأطروحات، وأعقب ذلك إقرار جميع القوانين ورفعها للمقام السامي، لتصدُر بها مراسيم سامية فعَّلتها على أرض الواقع وأدخلتها حيز التطبيق، منتقلةً بمسيرة التطوير والتحديث والنماء إلى عهدٍ جديدٍ لم تشهده عُمان من قبل.

هذا عن الجانب الإجرائي.. أمَّا المواطن العادي، فلرُبما يَسأل عن أهمية هذه القوانين بالنسبة لمعيشته، وتأثيراتها الإيجابية على حياته وقوت يومه خصوصاً في هذه الفترة الزمنية.. وهو سؤالٌ في محله، ويعكس حجم الاهتمام المجتمعي بكلِّ ما يخص القطاع الاقتصادي في بلادنا؛ فالاعتقادُ بأنَّ هذه القوانين لا يهتم بها سوى المتخصصين في مجال الاقتصاد، غير دقيق بل ويحتاج إلى إعادة مراجعة؛ فالمواطن العماني يملك من الوعي الكافي ما يدفعه للحرص على متابعة كل الشؤون، وقد انعكسَ ذلك في حالة الزخم المجتمعي التي تولدت إثر صدور هذه القوانين. وهذا الاهتمام المجتمعي نابع من الإيمان الراسخ لدى المواطن بأن جلالة السلطان المعظم -أعزه الله- لا يتوانَى عن سن التشريعات الداعمة للمواطن على مختلف الصُعد، فكل القوانين التي تصدر والتشريعات التي تُقر، تهدفُ في الأساس لضمانَ تمتُّع المواطن بالرفاهية والحصول على نصيبه من التنمية التي عمَّت أرجاء البلاد؛ ولِمَ لا، وهو هدفها وحجر الزاوية الذي تدور حوله. فالتنمية الشاملة والمستدامة في بلادنا ليست فقط مجسدةً في المشاريع الخدمية والتنموية؛ بل تمسُّ في مضمونها مختلف نواحي الحياة؛ وفي القلب منها الشق المتعلق بالاستثمارات، وآلية تنميتها، وجهود تعزيزها، وسبل جذبها وضخها في مشروعات تعود بالنفع على الجميع، المواطن قبل المستثمر.. وهذا مردُّ الخصوصيَّة التي تنفردُ بها إدارةُ الحكم الرشيد في بلادنا؛ فالقوانين مهما كانت تستهدف فئات معينة، إلا أنَّ المصلحة العامة التي تتحقق من ورائها تسعى لتعميم الفائدة على الجميع، حتى يشعر بنتائجها من يتأثر بها سواءً بطريقة مباشرة، أو غيرها.

وهذا يدفعُنا للخوض بصورة أعمق في تفاصيل هذه القوانين -والتي من المقرَّر أن تُفصح الجريدة الرسمية عن كل موادها اليوم بإذن الله- فمضامين المراسيم السامية تضع الجميع أمام إدراكٍ واعٍ بأنَّ هذه التشريعات تَضعُ جُملةً من الأهداف الوطنية؛ في المقدمة منها: تقديم أفضل الخدمات للمواطن؛ فهي تُوفر بيئة تشريعية جاذبة للاستثمار -بكافة أشكاله وأنواعه- لتكفل خدمة أهداف التنمية المستدامة، خاصة وأننا أوشكنا على بدء تنفيذ الرؤية المستقبلية "عُمان 2040"، والتي تضع هدفًا وطنيًّا ساميًا "عُمان في مصاف الدول المتقدمة"، وما يستدعيه ذلك من تعزيزٍ لتنافسية الاقتصاد الوطني، وتمكينٍ للقطاع الخاص للقيام بدوره المنوط به في جهود التنمية الشاملة، وفوق كل ذلك توفير فرص العمل اللائقة لشبابنا المثابر في جميع المجالات.

وبتفصيلٍ أكثر إيضاحًا، يُمكننا القول بأنَّ البيئة التشريعية الجاذبة للاستثمار تكون قد اكتملتْ بإقرار وصدور هذه القوانين الجديدة؛ فالمستثمر الأجنبي عندما يأتي إلى بلادنا، ويضخ رأس مال مناسبًا في أيٍ مشروع كان، فإنه يُدرك يقينا بأنه جاء إلى بلدٍ تتوافر فيه المقومات الداعمة والمحفزة، بدءًا من تبسيط الإجراءات -وهو المطلب الذي دعونا إليه مِرارا وتَكرارا، ويتحقق اليوم بفضل هذه القوانين- مرورا بالحوافز المقدمة من حيث تخصيص الأراضي وما يرافقها من تسهيلات ائتمانية، وصولا إلى نقطة أظنُ أنها بالغة الأهمية، ألا وهي أن المشروع الأجنبي سيتمتع بما يحظى به المشروع الوطني من مزايا وضمانات بل وحوافز كذلك. ولكن النقطة الأهم والتي تكشفُ مدى الحرص الحكومي والجدية الحقيقية في جذب الاستثمارات، أنه يمكن تقرير معاملة تفضيلية للمستثمر الأجنبي وفقا لمبدأ المعاملة بالمثل؛ وذلك بقرار من مجلس الوزراء الموقر. نحن إذن أمام بيئة تشريعية مواتية للاستثمار، تقدِّم كل الحلول والإمكانيات، وتسعى لتذليل الصعاب وتجاوز التحديات، وتضع نصب أعينها أهدافا لا تخطئها.

وهناك من الضمانات ما يُشجع المستثمر الأجنبي على ضخِّ المزيد من رؤوس الأموال، وإن تعثر -لا قدر الله- فإنَّ قانون الإفلاس سيُنظم عملية تخارجه من السوق، وهذه ضمانة أخرى من مؤسسات الدولة للمستثمر ومن يعمل معه، أن حقوق الجميع محفوظة، وأن القانون الجديد يوفر من الآليات ما يُساعد على عدم تأثر أي من أطراف العمل والإنتاج -المستثمر، والعامل، والدولة- بإفلاس مشروع ما.

... تهيئة المُناخ المناسب لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية لترسيخ أقدام التنمية، لم تتوقف عند هذين القانونين؛ فقانون الشراكة القطاعين العام والخاص، والتخصيص، وإنشاء هيئة مستقلة (هي هيئة الشراكة والتخصيص)، تُعبِّد المسار أمام دور وطني أكبر للقطاع الخاص الوطني في المرحلة المقبلة، وهنا يُمكن أن نقول إنَّ إطارا رباعيَّ الأضلاع قد تشكل بهذه القوانين الأربعة، يُؤطر بصورة مباشرة لانطلاقة اقتصادية لا تقل أهمية عن الانطلاقة التي تحققت في بداية عصر النهضة، لكن الفارق بين الانطلاقتين أنَّ الأولى في سبعينيات القرن الماضي قادتها الحكومة وأجهزة ومؤسسات الدولة، وكان القطاع الخاص وقتئذ وليدا، ولم يصل إلى المرحلة التي هو عليها الآن، في حين أن الانطلاقة الثاني التي نتحدث عنها اليوم، يُؤمل أن يقودها القطاع الخاص الذي استفاد طيلة عقود النهضة المباركة من الدعم الحكومي في صورة مشروعات وتسهيلات. وهذا المهمة الملقاة على عاتق القطاع الخاص كانت تستهدف في الأساس تمكينه؛ من أجل القيام بدوره الحقيقي في التنمية، ولا نعني بهذه التنمية جهود بناء المؤسسات التعليمية أو الصحية أو الخدمية، بل التنمية التي يصبح فيها القطاع الخاص مُمسكا بزمام المبادرة، موفرا لفرص العمل للشباب، معينا للدولة في تنفيذ مختلف الخطط، ومساهما رئيسيا في دعم الفئات المستحقة، وكل ذلك يتحقق اليوم بقانونيْ الشراكة والتخصيص. فمن جهة، تتيح الشراكة للقطاع الخاص أن يُقدم خدمات عامة ذات أهمية اقتصادية واجتماعية، أو تطوير خدمات عامة بهدف رفع كفاءتها؛ وبذلك ترتقي المنظومة الاقتصادية الوطنية، وتتنوع مصادر الدخل، وتحمل جزءًا من الأعباء عن كاهل الميزانية العامة للدولة؛ وبالتالي ينخفضُ حجم الإنفاق على بعض القطاعات -ومن المُمكن توجيهه نحو قطاعات أخرى- أو ينخفض بالأساس عجز الموازنة، فتتحقق الاستدامة المالية.

وبالتوزاي مع قانون الشراكة، يأتي قانون التخصيص، لكي يمنح القطاع الخاص الفرصة كاملة في تنفيذ وإدارة مشروعات في أنشطة اقتصادية محددة؛ فينشِّط القطاعات الاقتصادية بصورة عامة، ويستقطب الاستثمارات، ويخلق فرصَ عمل متنوعة أمام أبنائنا الشباب، إلى جانب تعميق سوق الأوراق المالية -حيث إنَّ بعض المشاريع سيتم تخصيصها من خلال طرحها في سوق مسقط للأوراق المالية، لضمان تطبيق أعلى معايير النزاهة والشفافية والحوكمة.

ويبقى القول في الأخير.. إنَّ المنظومة التشريعية الحالية تُمثل ذورة النهوض الاقتصادي، ونقطة لالتقاء الجهود الحكومية مع جهود القطاع الخاص؛ من أجل دفع عجلة التنمية إلى مزيد من التقدم، وهي الجهود التي تعكس أهمية مبدأ تكاتف الجهود؛ فاليد الواحدة لا تصفق، بل تحتاج إلى من يؤازرها، حتى تتحقق كل الأهداف المبتغاة، وتنتقل عُمان إلى مرحلة جديدة من مسيرة البناء والتحديث.