الأيادي المتعبة


علي السباعي | العراق

       نشر شراع مركبه، وفي دقائق أخذ بالابتعاد عن مدينته، خلال إبحارهما منحهما البحر مع كل ضربة من موجاته الأمان، مما حدابه ليقول لرفيق رحلته الصقار:
ـ السماء والبحر.
يضحك ((محبس)) وكأن أصابع البحر تدغدغه، ليقول: متلذذاً:
ـ عزيزي ((برع))! هنالك العديد من الأمور ليست ملك أيدينا.
قال ((برع)) وصوته كرتاج باب خشبي كبير:
ـ لماذا تعذب نفسك؟
على امتداد سواحل أنفسنا  ـ نحن ـ لا نرى الظلام الذي بداخل كل واحد منا، فترتفع جدران أجسادنا متينة، قوية، وعالية، توحي لكل شخص بأنه حي بينما سماء عيونه تنبئان بالتعب والخذلان. أجابه (محبس) وكأنه عصا قوية حطمت الرتاج وجعلت الباب ينفتح على مصراعيه لهذا هربت كل الطيور السجينة إلى الشمس فقال:
ـ لأنني حر!
يبادره الصقار "مسحورا"ً بمنظر البحر:
ـ إنك تذكرني بالصقور فهي ترفض القيود دائماً، مما تجعل داخلك إذ........
يقاطعه محبس:
ـ إذن فأنت ضائع!
كلام محبس وضع "جبلاً "من الهم فوق صدر الصقار، فيقول:
ـ اطمئن يا محبس! فأنا كالصقور لا تفيدني سلاسل ولا حدود. يجيبه محبس:
ـ هذا يعني أنك...
تململ الصقار "منزعجاً "والنوارس بصراخها تجعل السماء كورقة النوتة الموسيقية ترقص على أنغامها أحلى الطيور. فقاطعه ((محبس)) صارخاً، منبهاً، ومتعجباً:
ـ انظر إلى سرب النوارس ـ أتشاهد ما أراه؟!
هز برع رأسه مؤكداً  ما لاحظه. ثم قال:
ـ يا إلهي! إنها ((نصف طائر ونصف امرأة))!!
الرياح تضرب الأشرعة بعنف فتمايلا مع الموج الطافح بالإصدار وتمزقت بداخلهم أحلام صنعت من ورق شفاف لسماعهم المرأة الطائر تغني بأعذب تغريدة سمعتها أذن بشر..
حط الطائر على مقدمة المركب وشرع هو الآخر بالإبحار صوب مرافئ الكلمات قائلاً: "على لسان نصف المرأة":
ـ حرراني من ازدواجيتي! فأنا منكودة الطالع.
عظيمة هي المفاجآت، لكن! في لحظات تجد البشر أسرى قيودهم الماضية، فأكتافهم ما زال الغبار يملؤها، وتسمع في صدورهم آهات فشلهم.
فقال الصقار بيأس:
ـ وكيف ذلك؟ ونحن مقيدون. فاندهش ((محبس)) لكلام الصقار، وقال بانزعاج:
ـ متى ينتهي هذا الجنون؟
فصدرت إجابة بالنفي بحركة من رأس المرأة الطائر، وقالت:
ـ الحياة حلوة وأحلى مافيها جنوننا المستمر... فأضافت موضحة:
ـ إلى متى نبقى نصبغ حياتنا بألوان التشاؤم؟ فنعيش حياتنا كالملدوغين.
فيرد محبس بعدما أشعل سيكارته:
ـ إنه وجودنا.
رد برع:
ـ أوه.. لا يوجد هنالك معنى للذي نفعله، نحن في دوامة يا محبس بادره قائلاً:
ـ إنها القيود دائماً.
قال برع:
- نعم فحزننا وتقاليدنا ومخاوفنا هي أساس حريتنا، والذي نفعله يجعلنا نعي وجودنا.
أجابه محبس بآهة عميقة:
ـ آه... أتمنى أن أملك جناحين قويين لأحلق بهما إلى عوالم جديدة ـ عوالم مجهولة ـ لأضيع فيها وإلى الأبد. فنحن...
قاطعته المرأة الطائر:
ـ فنحن كالدمى يا أحبائي.
تحسر محبس وأجاب:
ـ نعم دمى وتحركها خيوط خفية بيد القدر.
فتقول بيأس:
ـ كلامك هذا يلغي وجودنا. النوارس والبحر، بإمكانك أن تفتح كل الأقفال بمفاتيح التصميم لتلجَ بوابة الأمل إلى باحة السعادة.
فمنذ ليال لم تستطع كل النجوم البيضاء من أن تسحرني كوني قد أقفلت على نفسي الباب، ونسيت أين وضعت المفتاح؟
رد برع طوعاً:
ـ إننا آسفون كوننا لا نستطيع تحريرك من ازدواجيتك.
***
همست الرياح كأنها موسيقى عذبة لسترافنسكي، وليالينا تزدان بالأقمار، فترانا كطيور النوارس على الدوام نسافر كالخواطر في نداءات أنفسنا وهي تضاجع أسطر نوتات عزف الزمن فترفرف المرأة الطائر بجناحيها برشاقة لتقول لنا:
ـ رحلة ممتعة، وأتمنى لكما صيداً وفيراً.
لوحا بيديهما المتعبتين، ونهض محبس يباعد شباكه عن بعضها، ويرمي بها إلى البحر ـ هنا ـ استطاع الولوج إلى عالم حي، عالم يتنفس نسائم عذبة تمازجها أغانٍ قديمة كان يتغنى بها عشاق شارع الهوى ليبثوا فيها شجنهم المشتاق إلى: ((مرن بنات الهوى بعكد الهوى مرن))

 

تعليق عبر الفيس بوك