كافكا - رسالة إلى الوالد - الذكورية


يحيى السداوي | العراق
نشر ماكس برود أجزاء من هذه الرسالة في العام 1937، كان قد استلمها من ميلينا صديقة كافكا بعد وفاته، إذ كان من المفترض أن تسلم هذه الرسالة عن طريق أم فرانز إلى والده، لكن ماكس برود نشر هذه الرسالة على دفعات، ليخفف من وقعها وشدة قسوة المحاكمة، التي ساقها كافكا الى والده، بعتباره الرمز السلطوي، لثلاث قضايا أساسية في حياته، هي الدين والجنس والسياسة، فالمتفحص لهذه الرسالة ، سيرى أن كافكا يشرح ويكرر كيف كان والده يعامله بشكل ديني من خلال العقاب والثواب، ويسبغ على كلامه تعاليم اليهودية، أو بعض ماعلق منها في شبابه على عائلته وكان أكثر من يوجه له هذه التعاليم الربانية هو فرانز، لأن والده كان يهودياً، يتبين من سياق الرسالة أنه أراد الزواج بثانية وفشلت المحاولة، بسبب أعباء العائلة وحدوث بعض المشكلات المالية له، ومن البديهي أن المسيحي يمكنه الزواج بواحدة، واليهودي يحق له أن يتزوج أربع، ولقد وضع والد فرانز كافكا سبب عدم زواجه الثاني في عائلته، مما أدى إلى بقاء هذه الحادثة ذكرى أليمة تعيش في خلد كافكا الطفل مدى حياته القصيرة (1).
إن السياسة التي كان يتبعها والد فرانز مع كافكا خصوصاً، كانت غير عادلة وفيها تمييز، بينه وبين باقي أفراد العائلة، حيث كان من الصعب أن يختار الطفل فرانز مايريد أمام رغبات أبيه المجحفة بحقه، فأن تفكير الطفل يختلف كليّاً عن تفكير البالغ، لصفاء سريرته وبرائته أمام أختيارات الحياة الكثيرة، حيث كان والده يذكر صغره هوَ، ولايهمه مشاعر العائلة من كيفية توجيه الكلام و الإهانة لهم، وكيف كان هذا الأب يبيع السكاكر في الطرقات وهو في سن صغيرة جداً، وكيف تحمل المشاق من أجل لقمة العيش، وكيف كانت عائلته تعيش في غرفة واحدة، إلى عدم توفر الطعام والتهميش من قبل المجتمع، وكان يعيد هذه الذكريات بفخر على فرانز وعائلته، ليجعلهم على الدوام في الموقف الضعيف، ليجبرهم على أشياء كثيرة من جانب ويحدد اختياراتهم من جانب آخر، كانت كل العائلة لها الحق في الاختيار والحديث نوعاً ما، ومن ضمنهم أخت كافكا التي لديها شيء من حرية التعبير عن رأيها، وهذا ما جعل الطفل فرانز يغبط أخته من جهة، ويكره هذه التصرفات القمعية من والده من جهة أخرى، بوصفه (ليس باستطاعتك منذ البداية أن تتحدث بهدوء عن موضوع لا توافق عليه أو لم يأت منك فبطبعك الإستبدادي لا تسمح بهذا)، إذ كانت هذه السياسة المتبعة في العائلة، هي ذاتها المتبعة في المجتمعات وهي رمز لها عند فرانز كافكا (2).
نشر هذه الرسالة ماكس برود كاملة في العام 1952 بعد كتابتها بثلاث وثلاثين عاماً، في مجموعة قصصية عنوانها (استعدادات زفاف في الريف)، وكانت الرسالة تحوي أكثر من مئة صفحة، وقدمت في العام 1984 لأرشيف الأدب الألماني، في مدينة مارباخ، لتساهم في الطبعة النقدية التاريخية لأعمال كافكا الأدبية (3).
إن الجنس مهم جداً في حياة البشر، وإذا ما تعاملنا مع قضية الجنس على أنه شيء مبتذل ومعيب، فنحن هنا نقتل كل المجتمعات على وجه الأرض، ومن الضروري جداً أن نفسر ونحلل ونددقق بالمشكلات الجنسية، لإيجاد حلول جذرية وواقعية صحية وصحيحة للعقد التي يسببها، ومن ضمنها الإضراب عن الزواج، وانعدام الصداقة والمصداقية بين الذكر والأنثى، وحالات الشذوذ الجنسي لكلا الجنسين، وحالات الطلاق الواسعة النطاق وعدم التكافؤ والإكتفاء الذاتي والترشيد للمتزوجين، والانحلال الأسري ومجموعة من المشاكل وعشرات العقد النفسية التي اكتشفها فرويد (4)، وفسخ الخطوبات بسبب حواجز وموانع عائلية، وفردية نفسية بالنسبة لكلا الجنسين، كما في هذه الرسالة التي كتبها كافكا إلى والده، حيث يلومه بها تارة ويلوم نفسه تارة أخرى، لأنه فسخ خطوبته مع فيليس باور مرتين، لما كان كافكا يحمل عقدتا الخوف من المستقبل، ولوم الذات المحطمة التي استقاها في صغره على يد أبيه المتسلط كما جاء في نص (رسالة إلى الوالد)، فهو يتحدث مباشرة عن جميع الأمور والمواقف التي مرت به، بصورة مباشرة ودقيقة في نصها.
إن طبيعة المجتمعات البشرية ذكورية منذ بداية تكوينها، ففي قصص تكوين الوجود، تبدأ جميع الحضارات الوثنية القديمة، بذكر كبير الآلهة الذكور، وهي معروفة وشهيرة جداً، إيلو، في العراق، وآمون، في مصر، وزيوس  في اليونان، فهؤلاء الآلهة الثلاث ذكور (5)، أما في الأديان السماوية الكتابية، فقد خلق الله تعالى آدم ثم خلق حواء، وذلك ليجعل صفة أسبقية الخلق للرجل لِيُحمِّلهُ الأسبقية في تحمل المسؤولية، من باب الأقدمية في التكريم، ولزجّه في الامتحانات الدنيوية قبل حواء، فيكون الرجال هم المسؤولين عن بناء المجتمعات العامرة، والوصول إلى الهدف الأسمى ألا وهو إعمار واستخلاف الأرض، ليس من باب التفضيل فحسب؛ بل من أجل مركزية القيمومة والديمومة في بناء الأسرة، وليكون لكل أسرة قبطانها، الذي يوجهها في عباب الحياة وحسب، ولكي لا يكون هناك أكثر من قبطان، فيتضارب القبطانان وتتعارض الأمور والأوامر التوجيهية مع بعضها وتؤدي إلى غرق سفينة الأسرة في عرض الدنيا، وجاء ذكر آدم في الإسلام قبل حواء، قال تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) (6)، وفي اليهودية (وجَبَلَ الرب الإله آدم تراباً) (7)، من هذا نستلهم ونفهم أن طبيعة المجتمعات على الأرض كلها منذ أقدم الحضارات والأديان ذكورية، لأنها وأن أدعت في تقاليدها أو عاداتها بأن المرأة، أو الأنثى تمثل الماء والخصوبة، أو تمثل الحياة بكل جمالها ومفاتنها، لكنها في الأساس قائمة على تسييد الرجال أو الذكور على سائر فئات المجتمعات، وهذا التسيد سارٍ حتى في أصغر مجتمع وهو الأسرةُ، كما رمز له كافكا برسالته إلى والده وجاء في بدايتها (لماذا أدعي أنني أخاف منك) وهذا دليل على خوف الطفل فرانز من والده المتسيد والمتسلط من خلال فحولته وذكوريته الفطرية القديمة، والتي تحتاج إلى تشذيب وتهذيب في بعض الآباء، من خلال التثقيف والمعرفة التربوية لأفراد المجتمعات كافة، التي تمتاز بالذكورية وخفض الاعتقادات الزائفة عند الرجال المتسلطين، على عوائلهم لأنهم ليسوا حكاماً وقضاتةً، يتصرفون كيفما يحلو لهم في أسرهم، على أساس إبراز ذكوريتهم الطافحة لاغير، ويبقى في نهاية المطاف الأب إنسانًا يصدر منه الخاطأ والصواب، فهو في ذلك بين الفطرة والاكتساب، على مدى حيوات الشعوب في الأرض.
.............................
الهوامش : -
(1) و (2) و (3) فرانز كافكا. الآثار الكاملة. دار الحصاد. سوريا. الجزء الاول. ترجمة إبراهيم وطفي. لسنة 2003. الصفحات 614، 636، 657، 727، 736، 752.
(4) سيموند فرويد. هو طبيب وعالم ومفكر نمساوي من أصل يهودي. مؤسس علم النفس التحليلي. ولد في 6 مايو 1856وتوفى 23 سبتمبر 1939.
(5) تاريخ حضارات العالم. تأليف المسيو شارل سنيوبوس. ترجمة محمد كردي علي. الدار العالمية للنشر. الجيزة. الطبعة الأولى 2012.
في مصر (عمون) وهو (آمون)صفحة 16. وفي العراق (إيلو) صفحة 28. وفي اليونان (زيوس) صفحة 73.
(6) القرآن الكريم. سورة البقرة آية (31)
(7) الكتاب المقدس. جمعية الكتاب المقدس لبنان. العهد القديم الإصدار الثاني 1995. الطبعة الرابعة. سفر التكوين 2. جنة عدن. رقم 7. صفحة 3.

 

تعليق عبر الفيس بوك