قالب فارغ


عمران الحمادي | اليمن
        
كنا على وشك الخروج بعد الساعة الثانية والنصف ظهراً، الجو معتم والسماء ترعد بأصواتها، تكاد تمطر، الرياح تتعالى لتضرب نوافذ الجامعة الهشة أصلا، والأبواب المتهالكة التي بالكاد تقف في أماكانها، استوقفتنا دكتورة علم نفس النمو لتنبهنا وتطرح لنا الملاحظات حول كيفية وطريقة امتحان مادتها، التي لم تستغرق أكثر من أربع ساعات لتنهي شرح ملزمتها المثقلة بأوراق عديمة الفائدة.. ترم  دراسي كامل اختصرته في سويعات كأننا ممرنا عبر آلة الزمن.. فهي لم تحضر منذ بداية العام الدراسي، لعدم قدرتها على توفير مقابل وسيلة المواصلات التي ستقلها إلى الجامعة.. هكذا بررت لنا غيابها المتواصل.. في حين لم نعلم إن كانت صادقة أو هي نوع من البشر ذاك الذي يلقي بأعذاره على أقرب شماعة..  أغلقنا باب القاعة بثلاثة كراس، ووقفت دكتورتنا بجانب السبورة، المتسخة لكنها لم تتمكن من الكتابةعلى السبورة فالجدار الإسمنتي كان بارزاً في منتصفها وقد كانت مبقعة بسبب هطول المطر عليها، لذا اضطررنا لمتابعة المحاضرة معها  بآذاننا وأيدينا.. جميعنا أخرج الأقلام والأوراق، والملزمة التي أخذنا نسخها للتو من كشك الجامعة وقمنا بتحديد النقاط المهمة التي ستدخل في الاختبار، كنا نلهث لملاحقتها فالوقت يداهمنا.. و الكل يريد أن يخرج قبل صلاة العصر.
وقفت ضاحكاً من هدوء زملائي الحذر والمفاجيء، فهم أوغاد وينبحون كالكلاب المسعورة طوال النهار، يجولون في ساحات الجامعة لمطاردة البنات المستعرضات، كنا صامتين نسجل كل ما يمكن لآذننا اقتناصه من كلام أو نقاط من أجل الاختبار فقط..
في ظل أجواء الحرب والأزمات  يصبح الاهتمام بالتعليم أمرًا ثانويا.. وفي بلدنا  الأمر أسوء بكثير فالتعليم أمر ثانوي  بالأساس لذا فقد غدا  همنا أن ننجح معتمدين على التلقين والحفظ فقط لكل شيء يقدم لنا حتى بما فيه من سفيه  الكلام وغير المقبول من الأفكار.. وكأننا قطيع الأنعام التي تقتات على العفن من الكتب  والملازم رخيصة المحتوى، دون نقاش، وبمجرد انتهاء الاختبارات ننسى كل شيء لنستعد لقراءة ملزمة جديدة، وهكذا يستمر حالنا منذ سنين ومعظم طلاب الجامعة على هذه الحالةز
شرحت دكتورتنا "اللقيطة" هذا ما كنا نطلقه عليها أنا ومجموعة من الطلاب.. فاسمها طويل وكبير فيه من ألقاب الرب الكثير، و بالطبع كنا حذرين من أن تعرف أو يعرف أحد الزملاء المغرضين فهناك دوماً من يساند الفاسدين والمتكبرين  ممن قبلوا على أنفسهم أن يكونوا رخيصين فقيضوا
من أنفسهم جواسيس على إخوانهم، و بيننا من زملاء الدفعة كثير، وهكذا هو حال بقية أقسام وتخصصات الجامعات الأخرى، فالوشوشة والمخابرات تفزع الجميع.. لقد قررنا أن هذا اللقب القبيح هو أكثر ما يناسب قبح ما تمارسه هي ومن أوكلوا لها مهمة التدريس..

كنتُ كبقية الطلبة أسجل أسئلة ونقاط الامتحان، كالحصان الذي لبس سرج  حمار لينخرط بين أفراد هذه الحظيرة.
كان آخر سؤال قالته لي اللقيطة، أكمل الفراغ.. الذي وجدته قد استحال عشرة فراغات ؟؟، استوقفتني كلمة الفراغ ؟ أي فراغ تقصده اللقيطة ؟؟
سرحت بخيالي لوهلة قصيرة من الزمن، بداخلي قوالب كثيرة فارغة، من يملؤها لي، هل أجرب مع هذه اللقيطة حفنة الحروف؟ وهل ستقبلها قوالب فراغاتي الداخلية أم سترفضها؟
أتمت اللقيطة مواضيع الامتحان وأخذ الطلاب أوراقهم وركضوا لاهثين نحو أقرب سوق للقات ..هلعين تقودهم الرغبة المتوحشة للحصول على نوع جيد من أنواع القات التي تعد ولا تحصى بقدرالأضرار التي تتركها عليهم كل يوم.. أما أنا فبقيت محتاراً بين فراغاتي وفراغات اللقيطة، وأي فراغ أبدء بملئه، رمقتني بنظراتها واقتربت مني، سألتني لماذا لم تغادر؟ أجبتها كيف أكمل فراغاتي العشرة ، ضحكت، قالت صبراً ماعليك سوى أن تحفظ هذه النقاط وبالتأكيد ستملؤها حتى تفتض الورقة، لم تفهم قصدي؟
ظلت تحدثني حول نقاط الامتحان والعشرة فراغات، وأنا أفكر في هيئتها، كانت ملحفة بجلباب أسود لايرى منها سوى عينين صغيرين كعيون الهرة الخائفة، أخذها الحديث فقاطعتها بنكتة طريفة كأنها ابتسمت فقد لاحظت انكماش عينيها، لتضع يدها على كتفي وتقول لي اجتهد يابني،
أحسست بأني قد حصلت على زورق كاف ليملأ  فراغاً واحداً من فراغاتي، أمسكت يديها فأطبقت بأصابعها الخمس على يدي، فشعرت كأني ملأت قالباً  فارغاً  كان هو الأهم بالنسبة للقيطة من أي شيء في حياتها.

 

تعليق عبر الفيس بوك