أنور الخطيب في رواية "الكبش" (3- 4)


أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

خامساً ـ الغزالي في طريق البحث عن التطهّر:
في أثناء تقديم الشخصيات في رواية "الكبش" لأنور الخطيب، يفيد المؤلف في حدود ضيقة من العلاقة بين التسميات ووظيفتها السردية، ويختار أسماء بعض شخصياته على هذا الأساس، فالغزالي يحيل على مادة غزل، وهو أهل لأن يغزل الأحلام، وأن يقفز كالغزال، كما يوحي السياقان التاليان اللذان ينسب أولهما للمسعودي، وثانيهما للسكرتيرة حياة:
•    "الأمر الأخير يتعلّق باسمك، تغزل أحلامك(1) في الليل، وتهديها للنهار"، ص113.
•    "ولك من اسمك نصيب يا دكتور (...) قفزت برشاقة الغزال"، ص175.
ويحاول الغزالي أيضاً، واستناداً إلى الفكرة ذاتها، فكرة الجذر اللغوي، أن يجد علاقة بين التوحيدي واسمه، فيقول للتوحيدي:
"فقلت: يبدو أنك حاولت أن يكون لك من اسمك نصيب، فقال: ليس بالعلم والمعرفة فقط، وإنما اليتم والشقاء أيضاً"، ص232؛ إذ قُتل أبوه في معركة لا تخصه، وتوفيت أمه بعد أسبوع بينما كان في السابعة من عمره.
ويفيد أحد أفراد "شرطة الأحلام" من اسم معصومة وينقله من العلمية إلى دلالتها، حين يقول للغزالي، عندما لا تجد الشرطة أحداً باسم معصومة في المدينة كلها: "ليس لدينا معصومون يا دكتور..  جميعنا نرتكب خيانات وجرائم بقصد أو بدون قصد"، ص110.
أما "حياة" التي لا يشير أي سياق لفظي إلى علاقة لها باسمها؛ فقد كانت علاقتها بالغزالي صانعة لأثر اسمها في تطوره وفي تطور حكايته؛ ذلك أنها عنت له الحياة النظيفة، وطريق التطهر، وحثّته على الخروج من اللاحياة، فمثّلت له بذلك نقاء الحياة ونماءها.
فإذا انتقلنا إلى ملامح الشخصيات وكيفية بنائها وأثرها في الحكاية كان لا بدّ لنا أن نبدأ بالغزالي الذي يبدأ به السرد، وبه ينتهي، وتتمحور الحكاية حوله في تحولاته العرفانية والمادية، هذه التحوّلات التي يلّخصها كلام "حياة" حين يسألها الغزالي عن نفسه:
"أتسأل عن الغزالي الطبيب البيطري أم الغزالي صاحب العباءة السوداء أم الغزالي الذي يرتاد الهمنغواي بكل أناقة وهدوء، يتابع الساهرين والساهرات، ويراقب موسيقى الجاز، ويحزن للمغنية الشقراء؟"، ص208.
بدا الغزالي في الافتتاح السردي مهرّجاً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مرموزات، ذلك أنّ شخصية المهرّج في الأدب تعني فيما تعنيه كثيراً من الحكمة والشجاعة التي لا تحاسب عليها قوانين السلطة الجائرة، والمأثور الشعبي "خذوا الحكمة من أفواه المجانين" تجسيد لمدى قدرة هؤلاء على قول الحقيقة المغطاة بغطاء شفيف، وما شخصية جحا إلا تجسيدٌ آخر لمهرّج يقول لجمهوره: اقرؤوا ما وراء الكلمات.
إنّ الغزالي يسرد لجمهوره في المدينة التي وصل إليها أنّه جاء ماشياً على سطح البحر، ولكنه يطلب منهم في الآن ذاته أن يوقنوا أنه ليس نبياً: "لستُ مباركاً، ولا يقطر من أناملي زيت القداسة، ولست معصوماً من الرذيلة والخطايا، ولا أشفي الأبرص، ولا أعيد البصر للضرير"، ص8. وإذ يتحدّث عن تفاصيل رعبه التي قادته إلى المعجزة، وهربه نحو الماء، ينقل صورة مدينة قديمة لا تختلف في تفاصيلها عن المدينة التي وصل إليها: "يقتربون رافعين سيوفهم صارخين مبتهجين منتشين: قربااااان.. قربااااان.. كبش، كبش"، ص6.
ومن المفارقة أنّ الشرطة لا تصدق، أو لا تريد أن تصدّق، حكاية وصوله عبر الماء؛ لأنها لا تريد أن تقر بأن البطش الممارس من قبلها ضدّ الأفراد يمكن أن يمنحهم قوى إعجازية؛ لذلك تعيده إلى وظيفة المهرج التقليدية، غير الرمزية التي تهدف إلى مجرّد التسرية عن الناس: "أنت المهرّج ومكانك مسرح المدينة، هنالك مرتادون دائمون يستمعون إلى قصص الغرباء أمثالك، فإن صدّقوها منحناك إقامة دائمة بيننا، وإن كذّبوها سنقطع أذنيك"، ص11.
أما التجلّي السردي الثاني للغزالي، فهو الطبيب البيطري الذي يميل في تكوينه النفسي إلى العزلة، فقد اختار هذه المهنة؛ ليتحاشى التعامل مع الناس (ص160)، وهو "يتعامل مع الحيوانات في مجال عواطفهم وأمزجتهم وحالات اكتئابهم"، ص57. وهو حين يمارس الطب البيطري الذي يحبه، يعيش توازنه النفسي، ويكون مؤهلاً للإنجاز وللحب أيضاً؛ فقد اهتمّ بمعالجة الحزن الذي يعانيه حصان الفارس، وحزن كلب دوغي الذي بدا منكسراً بعد أن ضربته صاحبته على عضوه التناسلي، إثر رفضه إشباع غريزتها الكلبية تلك الليلة؛ لذلك حاول الطبيب الغزالي أن يقيم "علاقة خاصة" بينه وبين مريضه: "مسّدتُ على رقبته فازداد رقة وذرف دمعتين سقطتا على بلاط المكتب"، ص64، وقد أثمرت هذه العلاقة زيارة أخرى للعيادة، يقوم بها الكلب وحيداً، بعد أن ذهبت دوغي إلى أحضان المسعودي: "فتحت عيني لأجد الكلب الأسود وحيداً في عيادتي، تقدّم مني وجثا، كان حزيناً كرجل أرمل"، ص153.
إنّ العزلة التي يفضّلها الغزالي، حتى حين يرفض شراكة النساء في طاولة الهمنغواي، عزلة اختيارية تبعده عن العالم الملوث، وهي أيضاً عزلة إبداعية، تقوده أحياناً، إلى كتابة الشعر: "كان ينهض صعلوك في داخلي يدّعي كتابة الشعر، فأفتح له صفحة في دفتر صغير أحتفظ به في جيب سروالي الخلفي، وأحرره ليبدأ في كتابة ما ليس له علاقة بموسيقى الجاز ورائحة العربدة والإضاءة المريبة"، ص29.
ويخطئ من يظن أنّ عزلة الغزالي جاءت نتيجة خوف أو ضعف. إنها تمترس خلف الذات التي لا تريد أن تتلوث بعالم البشر، وقد كان الغزالي شجاعاً وجريئاً بما يكفي لمواجهة المسعودي الذي أراد إخراجه منها؛ ليلحقه بمجموعة المبارَكين المطبّلين للسلطة، دون أن يدرك أنه يعبث بانسجامه الداخلي وتوازنه النفسي.
وقد أبدى السرد كثيراً من المواقف التي تجسّد قوة الغزالي وشجاعته في مواجهة المسعودي ومشغّليه، فقد واجهه بعد حلمه بمقتل أوفيسر بوجود مادة مخدّرة في دمه بعد ليلة الهمنغوي التي تشاركاها: "زرت صديقي الدكتور لبيب.. ونصحني بالعودة إلى البيت والاسترخاء، قال إنه يوجد في دمي مادة مخدّرة، تشبه تلك التي يستخدمها الجراحون في غرف العمليات"، ص109، كما أنه واجه الرجل الكبير الذي يطلب منه أن يكون مسحوق غسيل يبيض فساده في المساجد والصحف والتلفزيون، فالرجل الكبير واثق من المستقبل: "لكننا أذكى منهم، سنلعب معهم لعبة حرية التعبير، أما حين يحين الجد، فإننا بإمكاننا إقفال نوافذهم وحساباتهم الإلكترونية كلها، ونخلق معارضة أخرى"، ص236. أمّا الغزالي فينصحه قائلاً: "أرجو ألا تكون قد بالغتَ في تقييمكَ، فأنت لا تعلم متى تصبح الكبش الأضحية"، ص236، ولا يتوقف الغزالي عند هذا الحد بل يؤكّد أنّه سيخلع عباءته إلى الأبد، وأنه لن يرحل من القصر قبل أن يفرغ ما في جوفه: "كنت أعلم أن السائل لم يكن خمراً حقيقياً، فهذا لن ينطلي على زائر الهمنغواي الليلي، لكنني تعمدتُ تقيّؤ ذاك الكلام حتى تقتلني، ولن أشكرك على عدم قتلك لي، ولن أرتدي العباءة هذا المساء"، ص236.
ويخطئ من يظن أيضاً أن الغزالي  يعتزل الناس لغبائه، أو لسذاجته، أو لعدم قدرته على مضاهاة ذكائهم، فقد امتاز بالذكاء الشديد وتفوق على المسعودي في مواقف كثيرة، حتى من خلال مجاراته له، وإدراكه أنّ للمباركين صفاتٍ محددةً، فهم "يومئون ويختصرون ويوجزون، ويوزعون الابتسامات والنظرات الهادئة، ولا يقبلون على الطعام والشراب بنهم، يكثرون من الحمد والاستغفار، ولا يطيلون الجلوس في الزيارات، ولا يمارسون فضولاً غير مدروس"، ص117؛ لذلك حين انغمس، عن وعي في لعبة المبارَكين أتقنها، مضموناً وشكلاً، حتى في زيّه الذي أتقن تفاصيله: "تأكدت وأنا في المصعد من شكل العباءة السوداء، نظرت إلى السيف الذي أهدانيه الفارس الذي لم أعلم حتى تلك اللحظة ما حلّ بخيوله. توجّهت نحو شقة المسعودي"، ص117.
لقد استطاع الغزالي "سرقة القداسة من الغيب"، ص119، على حساب غريمه، وتفوق عليه، وأدهشه من طريقة كلامه أمام الفارس: "كان المسعودي ينصت إليّ ويهزّ رأسه، يحملق بي مندهشاً بين كل فكرة وأختها، وربما سأل نفسه من أين للغزالي كل هذا الكلام؟"، ص166؛ لذلك خشي أن ينفرد الغزالي بالفارس أو بأي واحد من السلطة، حتى لا ينفرد بالغنيمة؛ لذلك يقول له: "ستلتهم الكعكة وحدك؟"، ص167؛ غير أنّ الغزالي الذي لا يحب الكعك ولا الكريمة، لا يعبأ به، ويتحدث أمام الفارس وجمعه الغفير حديث الأولياء والعارفين:
"ولا أحسب الحاضرين الشرفاء سوى فرسان هذا الزمان، فالحصان يضحك إن ضحك فارسه، ويتكدّر إن مرّ بها دون منحها لمسة حنان، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي ذاتها العلاقة بين الفارس والحصان، وبين العشاق والحسان"، ص189.
على أن صحوَ الغزالي، أو لنقل: قراره بإيقاف لعبة الأولياء السخيفة، كان مدفوعاً بقوة الحب التي توفرت لديه، بعد أن دخلت "حياة" قلبه؛ وإن كان قبل ذلك مهيّئاً للخروج من تلك اللعبة؛ فقد ندم لأنه لم يقتل المسعودي في شقته: "شعرت أنني تواطأت مع المسعودي على نفسي، بتقبّلي ذاك الكبش الشهي قرباناً؛ ليفدي به نفسه"، ص131.
لقد كان الغزالي إذاً بحاجة إلى شرارة تشعل فتيله فقط، وكانت "حياة" هي الشرارة المنتظرة، فلولا وجودها لم يكن ليهتم بذلك الاستذكار العشقي الذي ارتدّ به نحو الماضي:
"تذكرت الفتاة التي قابلتها عند باب المدرسة قبل عشرين سنة، ولم أدر من منهما كانت الأجمل، لكنّ حياة بدت أكثر استعداداً لانتظاري في اليوم التالي"، ص175.
ولولا وجودها أيضاً لما انفتح باب الطفولة الذي كان مغلقاً، ولما تعلّق بجملة "كن نفسك" التي يقولها أبوه: "قال لي أبي وهو يعلّق على ظهري حقيبة مدرسية قديمة تحتوي على دفتر ومسطرة وقلم رصاص ومقص وسندويش: كن نفسك أيها الغزالي مهما كانت الظروف"، ص158.
وإذا كان الغزالي قد خرج عن أن يكون نفسه حين ادّعى (بناء على تطور حكايته مع المسعودي) أنه رجل مبارك، فإنّ حياة تدفعه نحو الجهة التي يحبّها، مستفيدة من الإيقاع اللغوي ذاته، حين تقول له: "لا تعد إلى القصر إن لم تجد نفسك فيه"، ص180، وتدفعه أيضاً إلى تطهّره المنشود الذي بدا في أثناء لقائه مع الفارس من خلال الأفعال التي لم يقم بها، من مثل الرغبة في السؤال عن طرق اقتناء القطع الأثرية وأثمانها، بما يعنيه ذلك من فضح للفاسدين، ومن خلال إحساسه أن رائحته أصبحت نتنة، وأن عليه البحث عن وسيلة للتخلص من النتانة:
"فكّرت أولاً في الذهاب كثور هائج إلى المسعودي لأقتله في اللحظة التي يفتح فيها الباب، وثانياً أن أستدرج المرأة "دوغي" إلى العيادة، فأرش وجهها بالأسيد، كي تعود للبحث عن صديقها المهزوم المسكين، ثم ابحث عن سمير وآخذه إلى الصحراء تحديداً، فأخوزقه على قمة كثيب ناعم، ثم أتوجه حاملاً سيفي إلى الفارس في قصره أو مزرعته، بلا عباءة سوداء، ولا لحية طويلة ولا بركات ولا لعنات، وأعطيه مفتاح العيادة والشقة، وأقول له إن المباركين ماتوا ولا طائل من صناعتهم لتهريب الآثار والاتجار بأعضاء البشر"، ص222.
.............
الهوامش:
(1)    تفرّق اللغة بين النسبة إلى الغزال والغزّال، ولكننا هنا سنتجاوز ذلك إلى وحدة الجذر اللغوي.

 

تعليق عبر الفيس بوك