إسقاط الطائرة الأمريكية .. كيَّة من نار

حمد بن سالم العلوي

 

لقد كان العلاج قديماً بين لعقة من عسل أو كيَّة من نار، وكان ذلك في زمن يسبق الطب الحديث، وهناك أمراض ظلت تحتاج إلى كيَّة من نار إلى وقتنا هذا، وذلك رغم التقدم الهائل في مجالات الطب، لكن في الوقت نفسه أصبحت بعض الأمراض تحتاج إلى العلاج التقليدي، ومنها مرض الغرور، ومرض التآمر على الذات وعلى الآخرين، فهو مرض عضال لا ينفع معه الطب الوقائي الحديث، لأنه مرض نفسي يقوم على الوسوسة، وتخيُّل العظمة وأحلام اليقظة الوبائية.

وإسقاط إيران لطائرة الدرون الأمريكية، ربما مثَّل وسمة في قمة الرأس، ليس لمستر ترامب وفريقه المشجع على الحرب، وهذا الفريق يشمل وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي وآخرين، وقد خَفَّتْ دعواتهم المؤججة للحرب بشكل علني، وخاصة نتنياهو الذي قد يكون تذكَّر كلام زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، الذي قال إنَّ الحرب إذا نشبت ضد إيران، لن تكون ثنائية بين أمريكا وإيران، فلذلك أعان نفسه بصمت القبور، رغم أنه هو أكبر محرض عليها، أما صديقاه المعروفان للعامة، فأخذا يدفعان بصديقهما سراً ليزيد من درجة التحريض، حتى لا تفتر عزيمة ترامب عن الحرب، لأنهما يشعران أن فرصة العمر إذا ذهبت اليوم، فإنها لن تعود مرة أخرى، أما الإنسان العاقل، فيرى أنَّ الحرب إذا وقعت، فإنها لن تبقي لهما عروشا لحكمها وذلك هو همهما، أما شقاء الشعوب فهو آخر همهما، طالما ظل المال يجري على يديهما، والمرتزقة أقل كلفة ومسؤولية، مقارنة بالمواطن الذي لا تنتهي مطالبه.

إنَّ إسقاط طائرة التجسس الأمريكية، أعطى قراءة للأمريكان طيَّرت كل وساوس الشك من العقلية الأمريكية بضعف إيران، وأنها سهلة الهضم على المعدة الأمريكية الشرهة بالضعفاء، فإنَّ الذي حدث لا يتوقف عند إسقاط طائرة بدون طيار، وإنما إعلان صادق عن القوة الإيرانية الحقيقية، وإن ما خفي كان أعظم، ولا أقول هذا استخفافاً بالقوة الأمريكية، التي تعد إلى "الآن" أنها تمثل القوة الأعظم حول العالم، وأن إيران لن تستطيع أن تدمر أمريكا وتنهيها من الوجود أو تحدث بها الضرر المُدمر، وأن أمريكا تستطيع أن تفعل الكثير من الضرر والتدمير بإيران، ولكن ليس للدرجة التي تخفي إيران تماماً من الوجود، وذلك حسبما يحلم به نتنياهو والآخرين.

إنَّ الذي سيحدث إن قامت الحرب على إيران، تدمير شامل لإيران ولمنطقة الخليج، والقواعد الأمريكية وغير الأمريكية، والمرافق الاقتصادية ومنابع النفط والغاز في الطرفين وجيرانهما كذلك، والبنية التحتية في المنطقة، وكذلك تدمير لإسرائيل ولبنان وسوريا والعراق، وسيطال الضرر العالم أجمع، لأنَّ تصدير النفط والغاز سيتوقف حتماً، وسيحل كساد عالمي رهيب، لأنَّ ما ينتج من نفط وغاز من هذه المنطقة، قد يضارع نصف الإنتاج العالمي، ورغم هذه الأهوال التي ستحدث نتيجة الحرب، فإننا نجد المهوسين بحروب "بلاي ستيشن" قد وجهوا سهامهم وذبابهم المغلق عليه في قاعات كبيرة إلى أي جهد لإحلال السلام في المنطقة.

إذن إسقاط الدرون الأمريكية، قد أسقطت معها الحرب العسكرية تماماً، وليس صحيحاً أن مستر ترامب أوقف الحرب على إيران حرصاً منه على أرواح 150 شخصاً، فالأمريكي لا تهمه أرواح الآخرين، ومن صدَّق ذلك نذكره بإسقاط الطائرة الإيرانية المدنية فوق الخليج عام 1988م، ولم تهتز شعرة لهم على أرواح ركاب تلك الطائرة، ونذكره أيضاً بملايين الأطفال في العراق الذين قتلوا بسبب الحصار، وعندما سُئلت وزيرة خارجية أمريكا يومها مادلين أولبرايت، أجابت بأنه ثمن مناسب لإخضاع العراق، ولكن سيظل ترامب ودافعو المال، يحاولون باستماتة شديدة تدمير إيران بوسائل أخرى، رغبة منهم في إسقاط إيران بالقوة الناعمة كما يُقال، ولكن حتى هذه لم تفلح على مدى أربعين عاماً مضت في تغيير السلوك الإيراني، فكيف تفلح اليوم وقد بلغ العنفوان المعنوي الإيراني عنان السماء.

إنَّ الإيراني الذي كان متردداً في الماضي من جدوى امتلاك بلاده للقوة العسكرية، وذلك قبل إسقاط طائرة الدرون فخر الصناعة الأمريكية، قد تغيرت قناعاته اليوم، وأصبحت معنوياته عالية، وطموحه أكبر لأن تستعيد بلاده مكانتها التاريخية، وأصبح أكثر تعصباً لحكومته، وإن الطابور الخامس الذي كان يجد شيئاً من التعاطف معه من قبل البعض، فإنه اليوم لن يجد تلك الحاضنة التي ساعدته في الماضي على إلحاق الضرر بإيران، وذلك وفق التوجيهات الخارجية، وحتى منظمة "مجاهدي خلق" ستجد صعوبة في إيجاد موضع قدم لها، لأن الإنسان الطبيعي تبهره القوة ويغرم بها، خاصة إذا كانت تمت إليه بصلة.

وأقول لهواة الحروب: طالما جربتم الحروب ولم تفلحوا فيها، وأصبحتم تستنجدون بالعالم ليُنقذكم مما جنته أيديكم عليكم، وتلبثتم بقطعة "تشنكو" على أنها صاروخ، أو مقذوف مُدمر كما تحلو لكم التسمية، وذلك كلما اكتشفتم سوء تخطيطكم وضعف تقديركم، أخذتكم العزة بالإثم، ولفقتم إعلامياً، إفتراءات ضد محبي السلام، فقد قال تعالى في ذلك:{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} النساء (112).

إن نصائح السلام تستهدف دائما وقف شلالات الدماء، وقد حدث ذلك في الحرب على اليمن، لكن للأسف لم يستوعب أحد رسائل السلام والتعايش. نصيحة أخرى أقولها لكم، إن شئتم السلام والأمان، عليكم بسياسة الحكمة والتعقل، أما إن أخذتكم الكبرياء والغطرسة، فلن تأخذكم إلا إلى الأسوأ، وإلى تدمير بلدانكم والمنطقة، ولن نبرؤكم نحن شعوب المنطقة من أفعالكم المدمرة.