انور الخطيب في رواية "الكبش" (2- 4)


أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

رابعاً ـ الفضاء الحلمي:
يشّغل الفضاء الحلمي حيزاً مهماً جداً في الرواية، وفي لا وعي بطلها الرئيسي الغزالي؛ إذ تبنى عليه تطورات في الشخصية والحكاية على حدّ سواء. وقبل أن نبدأ بتحليل هذا الفضاء ورموزه لا بد من الإشارة إلى أننا بصدد تحليل أحلام مصطنعة، صنعها خيال الكاتب الواعي، وليس لا وعي الشخصية؛ لذلك فإنّ علينا، استناداً إلى فرويد، أن نفسّر مثل هذه الأحلام تفسيراً رمزياً، وأن نسعى إلى أن نستبدل "بمحتوى الحلم محتوى آخر معقولاً يماثل الأول من بعض الوجوه(1)".
غير أنّنا لا يمكن أن نقتصر في تحليل الشخصيات على الأحلام؛ ذلك أن ّشخصيات مثل أوفيسر لا تجد متّسعاُ لأحلامها: "لا يحلم من ينظف عشرة أدوار كلّ صباح، ويغسل عشرين سيارة كلّ مساء"، ص142. كما أنّ اعتياد اليومي وألفته تفضي إلى فراغ، لا يتيح للأحلام أن تتشكل، بسبب غياب محفّزها، وهذا ما جعل رجلاً يزور عيادة الغزالي؛ ليعالج نفسه، فهو يشعر أنه حيوان غير قادر على الحلم: "لا مفاجآت في حياتي اليومية، ونومي فارغ تماماً، لا أرى أحلاماً جميلة، ولا كوابيس قبيحة، كأنني حيوان، ولهذا حضرت إلى عيادتك"، ص149.
غير أنّ هذا الرجل لم يكن على حقّ في اعتقاده بأن الحيوانات لا تحلم، فهي تحلم مثلنا، ولكنها "لا تستطيع التعبير عن أحلامها التي تختلف طبيعتها عن طبيعة أحلامك، قد يحلم الكلب بعظمة، أو أنه يلاحق قطة أو حشرة"، ص149، كما أنّ عدم معرفتنا بلغة الحيوان تجعلنا نقرّ ما أقرّه السياق الروائي السابق، وما أقرّه فرويد في هذا الإطار: "أمّا بم يحلم الحيوان؟ فهذا ما لا أعلم عنه شيئاً، ولكن هناك مثلاً سائراً، أدين بمعرفته لأحد تلاميذي، يدّعي معرفة الجواب. يسأل المثل: بم تحلم الأوزة؟ ثم يجيب: بالذرة"، 158.
فإذا بحثنا عمّن يحلمون في الرواية، وعن أحلامهم المتوقعة، يفاجئنا المسعودي بأنّه يتوقع أحلام الناس، ويقيم بين محتوى الحلم ومرجعه الواقعي علاقة توافق، حين يقول:
"وماذا سيحلم الناس وهم يشاهدون الأخبار الحبلى بالموت والدمار والذبح والقتل والرصاص والبيوت المدمّرة التي أفنوا أعمارهم في بنائها؟ لا توجد أحلام يا صديقي. هناك كوابيس". ص45.
غير أنّ الغزالي يخالفه في ذلك أحياناً، ويرى، ما يراه إدلر(2)؛ حيث إن الأحلام (قد) تأتي لاستكمال نقص ما في حياة الإنسان؛ إذ "يشاهد الرجل نشرة أخبار مليئة بالدم، ويحلم بعد منتصف الليل أنه يحتضن حبيبته وسط حقل مطرّز بالخزامى"، ص46. ولكن الغزالي يعود؛ لينحو منحى المسعودي ذاته حين يقول للفارس:
"أحلام الناس غريبة أيها الفارس القدير، لكنني لا أراها غريبة، إنهم يرون أناساً يطاردونهم في الصحراء والبراري بغية قتلهم بالسيوف والسكاكين(3)، وفي البحر بغية إغراقهم، ومعظمهم يرى في أحلامه أو كوابيسه الفراغ المطلق، النساء يحلمن برجال يغتصبونهنّ، والأطفال يحلمون أن الحرائق نشبت في بيوتهم، وكثيرون يستيقظون فزعين من اختفاء المدينة بأكملها"، ص191.
غير أنه من الطبيعي أن نميل، ونحن بصدد تحليل محتويات هذه "الأحلام الأدبية"، إلى يونغ، ونبتعد قليلاً عن فرويد، لأن "الحلم الأدبي" هو من إنتاج الأديب الذي يهتم عادة بالخيال الجمعي، حتى يوصل رسالته إلى قارئ محتمل، فليس صحيحاً أن المحتويات الحلمية هنا تُستمد من الخبرة، كما يرى فرويد(4)، بل هي في السياق الإبداعي التأليفي مأخوذة من مستودع "النماذج الأولية العليا"، ومن اللاشعور الجمعي الذي نتشارك فيه(5).
وإذا كان الناس الذين يتحدّث عنهم الغزالي ينتمون إلى قاع المجتمع، كما يوحي السياق السابق؛ فإنه يسعى في خيال لاحق، وفقاً لوظيفته التبشيرية (أو ربما الإنذارية) المنتظرة أن يتحدث عن أحلام الحاضرين في أثناء لقائه مع الفارس، وهم من علية القوم. فكأنه أراد أن يواجههم بأن تراتبية القهر والخوف لا تستثني أحداً؛ فأحلامهم أيضاً لا تخلو من المطاردات: "فأحدهم يحلم بخيول وفرسان يطاردونه في الصحراء، بغية قتله، وهذا أثّر على خيوله، والخوف أن يؤثر على جنده"، ص193.
إنّ هذا الهرب في أحلام المطاردة جزء من استراتيجية مواجهة الخطر لدى الحالم، إذ لا يسأل نفسه عن مصدر الخطر أو كيفية مواجهة بل يسعى إلى الركض أو الاختباء أو تضليل المهاجم. ويرى إدلر أنّ ذلك ينبع مشاعر القلق في الحياة، وهذا ما يتوفر في شخصية الغزالي الذي رأى نفسه في مواجهة مكر المسعودي؛ لذلك كان الهرب في الحلم هو رد الفعل الغريزي المناسب: "في هذه الأحلام يرى الحالم نفسه مطارداً من مهاجم، حيوان، وحش بملامح غير واضحة، يريد أن يؤذيه أو يقتله، نتيجة لذلك يبدأ الحالم بالركض، والاختباء، أو تضليل المهاجم(6)".
غير أنّ المسعودي نفسه كان يتجه في تفسير الأحلام منحى غريباً، لا يستند إلى أية معرفة، أو لنقل إنه يستثمر معرفته في هذا المجال لقلب الدلالات الحلمية إلى أضدادها، بطريقة تثير حفيظة الغزالي الذي يروي حلمه له، على أساس أنه حلم صديق، ولكنه لا يلبث أن ينكشف أمام مفسّر الأحلام الماكر:
"لقد رأيت المسعودي في منامي يحمل شبكة لصيد السمك ويطاردني (...) شاهدتُ المسعودي واقفاً كالمارد إلى جانبي، وقد اسودّ لون بشرته، كان يرفع سيفاً، ويهمّ يضرب به رأسي فاستيقظت"، ص53.
وقد تلاعب المسعودي بتفسير هذا الحلم كثيراً، وقلب جميع دلالاته السلبية إلى أضدادها:
•    فـ "البحر خير، ومحاولة الصديق إلقاء الشبكة على صديقه تعني إضمار الخير له، أمّا مشهد السيف الذي لم يكتمل فيعني الحماية"، ص ص77ـ 78.
•    "صديقك كان يطاردك في البحر؛ ليدفعك نحو ما هو خير وأبقى، نحو معجزة كبيرة حدثت في القرن السابع قبل الميلاد، كان صديقك يدفعك نحو الحوت العنبري؛ ليدخلك إلى جوفه"، ص78.
•    "ثم يقذفك على ساحل لتأكل اليقطين، وتعود إلى الهمنغواي تصلح معصومة وسمير، وتؤمن الفرقة القادمة من جنوب إفريقيا على يديك"، ص78.
وحين يلمح الغزالي إلى غزة المحاصرة يقول المسعودي:
•    "وتستطيع أيضاً أن تفك حصار غزّة، وتحرر الضفة الغربية، وتمسح إسرائيل من الوجود، وتوحّد العرب على كلمة سواء، وتبني دولة القانون والشريعة، وتنشر العدل والأمان، وأن تتزوج مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك، وربما تكون معصومة من بينهم"، ص79.
وحين يقول الغزالي للمسعودي: "رأيت حارس البناية أوفيسر مقتولاً في غرفته، كانت مغلقة والمفتاح في القفل الداخلي، وأوقفتني الشرطة ثلاثة أيام، حاولوا زيارتك فلم يجدوك، وبحثوا عن اسم معصومة فلم يعثروا على أحد بهذا الاسم في المدينة كلّها"، ص110.
يتجاهل المسعودي كل تفاصيل الحلم، وينهض، ويمسك كفّ الغزالي، ويقرّبها من فمه، ويقبّلها، ويعلنه رجلاً مباركاً، ص110، ويسعى أن يستعيد معه ما سبق من أحلامه ومن أحاديثه؛ ليؤكد له أنه (مبارك)، ويضمر طبعاً أن يضعه في خدمته لاحقاً، على نحو ما يتضّح في السياقات التالية:
•    "هل تعلم ماذا يعني عثورك على الحارس "أوفيسر" مقتولا على وجه اليقين، ثم تجده يمارس الحب مع إحداهنّ، ويحضّر نفسه ليعترف أمامك بخطيئته؟ لقد أحييته أيها الغزالي، وبعثت فيه الأمل من جديد، وطهّرت روحه باعترافه"، ص113.
•    "لنبدأ من رحلتك البحرية التي تقول عنها بكل براءة إنك مشيت فيها على الماء، وركع خلفك الرجال الذين كانوا يطاردونك، وهذه القصة وحدها حقيقة كانت أم حلماً تكفي لتكون مباركاً ومؤهلاً؛ لتمنح المدينة وسكانها طعماً آخر للحياة"، ص112.
•    "الرجال الصالحون تعرّضوا للقتل والتنكيل، وصبروا، وأنت صبرت، والسيف الذي كان مسلطاً عليك هو السيف الذي ستحمله لتسلطه على الناس؛ لتحكم بينهم بالعدل، وليس لتسلطه على رقابهم"، ص113.
•    "هنالك أمر أخير أيضاَ، ليست صدفة أن تقيم في الدور العاشر، لا يفصلك عن السماء سوى غرفة صغيرة يقطنها خادمك أوفيسر"، ص114.
وعلى الرغم من أنّ تفسيرات المسعودي تبدو ساذجة، إذا ما أُرجعت إلى مرموزات القتل والسيف والدم؛ فإنها تميل إلى الدهاء والخبث، والغزالي الذي لا ينقصه الذكاء توصّل دون جهد إلى مرامي هذه التفسيرات، حتى إنه واجه تفسير حلمه الأول بقوله: "أنت قلبت الحلم المخيف إلى مشهد عاطفي"، 79، وصعّد بعد ذلك من حربه الحلمية ضدّ المسعودي حين روى له حلماً اخترعه في يقظته؛ ليرعب المسعودي: "رأيت فيما يرى الرائي أنّي أذبحك. ولهذا أحضرتُ سيفي معي لتنفيذ مشيئة الوحي والرؤيا"، ص119. وقد أثار هذا الانتقال في مواقع الضعف والقوة رعب المسعودي الذي فَزِع إلى التراث الديني(7)، لا ليقول: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، بل ليفتدي نفسه قائلاً: "سآتيك بكبش لا رأت عيناك مثله ولا سمعت، مزيج بين الإنسان والحيوان، والإنس والجن (...) ستجده يطرق بابك"، ص120.
..............
الهوامش:
1)    سيجموند فرويد: تفسير الأحلام، ترجمة: د. مصطفى صفوان، راجعه د: مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة، ص127.
2)    "يرى إدلر أن الأحلام تسعى إلى تحقيق نقص يواجه الإنسان في الحياة، فقد يحلم فتى بأنه جذاب وبطل مُخلّص ويطير ويقذف النيران علي الأعداء؛ فهو بذلك يحب أن يكون ذا مكانة عالية ومنزله رفيعة، أي أن الأحلام علاقتها عكسية بالواقع". نقلاً عن ألبير يوسف: تفسير الأحلام في العصر الحديث بين فرويد وإدلر، موقع المحطة الإلكتروني، 24/ 6/ 2018.
3)    للسيوف والسكاكين دلالات جنسية، حسب فرويد، وسوف نتغاضى عن هذا الرمز هنا؛ لأنّ السياق ليس سياقاً حلمياً بشرياً، بل سياق إبداعي يستبعد هذا الاحتمال. وقد أفاد الكاتب من هذين الرمزين وأشباههما عدة مرات لا في سياق الحلم فقط، بل في متابعة الأحداث، فأشار غير مرة إلى السيف، وإلى الغصن الذي يزهر.
4)    يقول فرويد: "المادة التي تكوّن محتوى الحلم إنّما تستمد جميعها من الخبرة على نحو أو آخر"، تمكن العودة إلى: سيجموند فرويد: تفسير الأحلام، مرجع سابق، ص50.
5)      تمكن مراجعة: كارل يونغ: الأحلام – ترجمة: محمود منقذ الهاشمي – دار الحوار، اللاذقية، ط1،  2013، ص 71.
6)      نقلاً عن ألبير يوسف: تفسير الأحام في العصر الحديث بين فرويد وإدلر، موقع المحطة الإلكتروني، 24/ 6/ 2018.
7)      الإفادة هنا واضحة من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل. يقول تعالى في سورة الصافات: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم ٍ  (107).

 

تعليق عبر الفيس بوك