جريمة في مطعم السّندباد.. (قصة قصيرة)


ماهر صباهي | سوريا

عند المساء انطلق الزوجان الشابان، يتألقان بنضارتهما وحيويتهما، تغمرهما السعادة، نحو مطعم السندباد، بعد أن سمعا كثيراً عن رقيّه وأجوائه الرومانسيّة، وذلك من أجل تناول العشاء، وقضاء سهرةٍ عامرةٍ بالحب، استرجاعاً لذكرى زواجهما الأولى.
تقدّما نحو المطعم مبهورَين بأناقة المدخل، والديكورات المختارة له بذوقٍ رفيعٍ، متأملَين أصص الورد التي اصطفّت على جانبيه، مرحّبة بزوّاره. وما إن توسَّطا الصالة، حتّى خيَّمت عليهما روح السكينة والارتياح، التي أشاعتها في المكان أضواء خافتة ولوحات فنّية مختارة بعنايةٍ فائقةٍ تزيّن الجدران، وطاولات جذَّابة ، كأنّها تدعوك للجلوس.
لم تكن الزوجة قد استوعبت بعد حالة الانبهار والشرود التي أصابت زوجها على حين غرة، وجعلته يبدو كأنه يعاني غيبوبة فكرية مفاجئة، فحاولت مداعبته والتودد إليه قائلة:
ـ لا شكَّ أن المكان فتنك كثيراً يا مهنّد.
ثم أضافة مازحة؛ لتشيع جواً من الفرح: "ولا يهمك حبيبي"، إذا كانت الفاتورة مرتفعة، فلن نعيد الكرّة إلا في مناسبة زواجنا الثانية.
ولكنّ مهنّد لم يضحك، بل ظلّ مغيّباً، يحوم ببصره في أرجاء المكان، يتفحّص زواياهُ، إلى أن زاغ بصره، وارتدّ إليه باضطراب وذعر، فسألته زوجته:
ـ هل تعرف هذا المكان؟ هل أعاد إليك ذكرى ما؟
فردّ عليها كما لو أنّ شخصاً يحاول أن يستجمع ذاكرته المفقودة:  
ـ نعم.. لقد كنت أتردّد إليه سابقاً، ويهيأ لي أنني أعرفه جيّداً: انظري إلى ذلك المدخل، إنّه يؤدّي إلى ساحة مكشوفة، وذلك الدرج، يؤدّي إلى الطابق العلوي، حيث مكاتب المحاسبين والكتبة، يتصدّرها  مكتب كبير فخم لمدير المطعم، وذلك الممر الضيّق، يؤدّي إلى المغاسل والحمامات، فقاطعته زوجته، وقد أخذت تلهث من بوادر صدمة أخذت تجتاحُها ، وسألته باستهجان:
ـ هل جئت إلى هنا حقاً؟ لماذا لم تخبرني؟ وهل كنت بمفردك؟
ـ لا.. أبداً.. لم أكن بمفردي، بل كانت تصحبني فتاةٌ حسناءٌ، كانت تربطني بها علاقة حبّ عارمة.
وهنا شعرت الزوجة أنها اقتربت من هاويةٍ أوشكت أن تتردّى فيها، فانتصبت واقفة، تستشيط غضباً، إلّا أنها وجدت نفسها أمام النادل، واقفاً إلى جانب الطاولة، يسألهما، بانحناءة بسيطة من جسده النحيل، عمّا يريدان طلبه من طعام، فنظر مهنّد إليه بتمعّن شديد، كما ينظر محقّق الشرطة إلى متّهمٍ يريد انتزاع اعتراف منه:
ـ أأنت سليمان؟
ـ نعم يا سيّدي.
ـ ما هذا الشعر الأبيض الذي غزا شعرك فجأة؟ ومن أين جاءتك هذه التجاعيد؟
ـ هل تعرفني يا سيدي؟
لم يجبْ مهنّد وبقي صامتاً، إلّا أنّه طلب من النادل مهلة لطلب الطعام.
تأجّجت في صدر الزوجة ثورة بركان، أخذت تهدّد استقرار روحها، وحياتها الزوجية، وبانفعال شديد، لا يحتمل الصبر، سألته:
ـ ومتى حدث ذلك أيها الدنجوان الخطير؟
وبهدوءٍ، وأعصابٍ باردة، تخفي خلفها ذكريات نارٍ متأجّجة، أجابها:
ـ لست أدري، ربما منذ زمن بعيد.
شعرت الزوجة أن زوجها الشاب غير متوازن على الإطلاق، ربّما اعتراه خرف مبكّر، أو ربما كان مسحوراً أو مجنوناً، غير أنّها استرسلت بأسئلتها المتزاحمة  فوق لسانها:
ـ وماذا حلّ بتلك الحسناءِ يا روميو أفندي؟
قتلتها! نعم طعنتها بسكينٍ حتّى الموت، عند تلك الطاولة (مشيراً إليها بإصبعه)، ولكنهم قبضوا عليّ قبل أن أصل إلى مدير المطعم، وأقضي عليه أيضاً، بعد أن اكتشفت أنها تخونني معه. لقد أغراها الحقير بثروته الكبيرة، ومكانته المرموقة.
ضاقت أنفاس الزوجة، غير أنّها حاولت بكل ما أوتيت من فُضول أن تستكمل الحكاية الغريبة؟
ـ وماذا حصل بعد ذلك؟
حكموا عليّ بالإعدام، ونفّذوا الحكم بي.
لحظات صمتٍ مريبةٍ، وكل منهما هائم في واد، أخذت تتمعّن في عينيه شلّالات حزن جارف، وغضب مكبوت،  ولمست فيه فورة عاطفة ضبابية تعمي الأبصار، وتُغرق النفس في هواجس القلق والتوتر، فعاشت بين عاطفتين: أتضع حداً لهذه المهزلة؟ أم تشفق على زوج باغته مرض  ما، فاختلّ تفكيره، وراح يروي قصصاً من نسج خياله، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة.
ولكن: ماذا عن معرفته للمكان؟
وكيف تعرّف إلى النادل؟
وهل يمكن لشاب لم يبلغ الثلاثين، وهو في يحتفل بذكرى زواجه الأولى، أن يبتدع كلّ هذا الهذيان؟
نهض الزوج واقفاً، كأنّه في حالة سًكر، واستأذن زوجته للذهاب قائلاً إنه سيعود بعد قليل.
جلست بمفردها تتقاذفها أمواج من الأفكار الضبابية، فوثب إلى ذهنها خاطرٌ سريعٌ، وهو أن تنتهز فرصة غيابه، لتنفرد بالنادل حين أقبل مرّة ثانية يسألها عن طلباتهما:
ـ أريدك أن تصدقني القول أيها الرجل الكريم، هناك أمر يهمني جداً.
وبانحناءة بسيطة من رأسه أجاب:
ـ تفضّلي سيّدتي.
ـ هل وقعت حادثة قتل لشابّة هنا في زمن ما؟
اعترى النادل وجومٌ مفاجئٌ، وتلكّأ لحظة إذ إنّ السؤال لم يكن ليتوقّعه، بل كان وقعه عليه، كلدغة عقرب  مفاجئة.
ـ نعم سيّدتي، قد حصل ذلك مع الأسف، وكانت حادثة مؤلمة.
انتفضت الزوجة من مكانها، وتبدّل لون وجهها نحو الاصفرار، لتتابعه مستفسرة:
ـ ومنذ متى حصل ذلك؟
ـ منذ ثلاثين عاماً.
ـ ثلاثون عاماً ؟ ومن قتلها؟ سألته على استعجال.
لكنّه وقف حائراً مرتبكاً، يتلفّت حوله كمن وجد نفسه أمام جلّاد صارم، يريد أن ينتزع منه سرّاً يحاولُ كتمانه، وبعد إلحاح شديد منها، ومزيد من الرجاء، استطرد قائلاً:
ـ نعم يا سيّدتي، قتلها حبيبها وليد، عندما اكتشف علاقتها مع.. مع... ثم توقف عن الكلام متلعثماً شاخص البصرِ، يتعثّر في حيرته وقلقه، فاقترب منها، محاولاً أن يهمس لها بصوت خافت، كي لا يتسرّب كلامه إلى مسمع أحد، إلا أن أصواتاً انفجرت، وتعالت من كلّ حدب وصوب، وانتشر ذعر مفاجئ في أنحاء الصالة. الموظفون يهرولون نحو الدرج المؤدّي إلى الطابق العلوي، وروّاد المطعم يتدافعون فزعاً حول الطاولات، وصرخةٌ تتردّد، ويدوّي صداها في أنحاء المطعم:
ـ لقد قتلت المدير، لقد قُتلته.

 

تعليق عبر الفيس بوك