منظومة الأخلاق فضيلة دينية أم رؤية إنسانية..أم وسط بينهما؟!!


محمد عبد العظيم العجمي | مصر
لم تخل حقبة زمنية منذ عرف الإنسان الحياة على الأرض وعرف الاجتماع البشري، لم تخل فترة من عرف أخلاقي يضبط هذا الاجتماع البشري وينظم سلوك التعاطي فيما بينهم ؛ تتطور هذه المنظومة تدريجيا زمانيا ومكانيا ، قد تتنوع وقد تختلف نسبيا من اجتماع لآخر لكنها لا تتنازل عن ثوابت توحي وتثبت بأن هذه المنظومة أحادية المنبع والمصدر وإن تنوعت، كما توحي بأن هذا الإجماع البشري النسبي عليها وراءه فطرة ملهمة تستقي من مصدر علوي يكاد يمد هذه الفطرة ويهديها لما فيها خيرها وصلاح اجتماعها ، وكذا تجنب ما فيه ضررها وما يفسد عليها اجتماعها ..
ولولا هذه الضوابط من الموانع والدوافع التي تحفظ استمرار الحياة وتقيم أودها ، وتعلي من قيمة الاجتماع البشري وتفضله على كثير من غيره من المخلوقات لفسدت عوامل الحياة وبالتالي توقف استمرارها وأودى إلى الفناء أخيرا، ولصدقت هذه الخاطرة الملائكية "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" ، ولكن صدق الاستطراد الإلهي عليها "إني أعلم ما لا تعلمون" .
غير أنه بالرجوع إلى أصل نشوء هذه المنظومة القيمية وأن مردها هل هو إلى الفطرة الملهمة ، أم الدين الذي شملها في تعاليمه وشرائعه، أم إلى الإنسان الذي أعمل عقله بعد أن تقابل في ضروب الحياة مع بني جنسه فرأى أن حتمية الاستمرار تفرض عليه ضبط قواعد خلقية لإدارة حركة هذا الاجتماع والاتفاق على صورة لتسييره تحفظ عليه ما جمعه وما يسعى لتحقيقه دون أن يحدث هذا النوع من التصادم أو التناحر ، وإذا حدث كيف يمكن الاهتداء إلى حلول لما يعرض من صنوف تقاطع المصالح والمطامح حتى تكون استمرارية الحياة على الأرض سلسة الحركة والقياد، كمثل ما اهتدى إليه من: اجتماع الجماعة على أنه لابد لها من قائد يدير أمرها ، وعلى أن لكلٍ حرية خاصة به تتوقف حدودها عند حدود حرية الآخرين الذين يحيون معه في مجتمعه، وأنه يجب الحفاظ على النفس والممتلكات والعرض والنسل ، وأن الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد... هذا على مستوى إيجابية السلوك ، أما على مستوى الأخلاق السلبية فقد أنكر الإنسان في بدئه الطمع والحسد والقتل والسرقة والاعتداء والشح والبغي وغيرها من السلوكيات التي توجب الإفساد والإهدار لما جمع في الحياة وحقق ، وما يقلق عيشه وينغص عليه سعيه ويهدم ما شقي في بنيانه..
كل هذه أمور توصل الإنسان إليها بعقله وهي تعد من منظومة الأخلاق الإيجابية والسلبية التي تقرها النفس السوية ، وتعاف كذلك أضدادها..
ولكن إذا كان العقل قد اهتدي فيما سبق ذكره أن هذا فيه صلاح وفلاحه ، وأن في عكسه ضياع جهده وفساد أمره ، فمن الذي ألهم العقل المحض إلى مثل ما ألهمه ، وما الذي هداه ، وكيف علم الصلاح والفساد ثم راح يبحث عن الخلق الذي يزكي هذا ويعاف هذا؟
لابد أنها الفطرة السوية التي أودع فيها كما يقول الفلاسفة أولا (الحق والخير والجمال) (1)، وهذا هو المعيار الذي راح يقيس الإنسان عليه ما ابتدعه من خلق ، وقد علم أن كل خلق يوافق هذه الفطرة ويؤيدها فهو خلق سوي أو هو خير ، وكل ما يعاندها فهو شر؛ ويتجلى هذا مختصرا في أروع صوره في ما جاءت به الأديان بعد ذلك ، في قوله تعالى "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)" الشمس ، والإلهام هنا يعني هداية الفطرة التي فطر الإنسان عليها وقد أودع فيها ما أودع من الخير والشر، وعلم ما يضره وما ينفعه ثم سعى في الحياة أن يقيم هذا الميزان الفطري الذي علمه ويحقق ما يطابقه في واقعه، وهو ما أطلق عليه (كانط) "ما فوق العقل" وهو إمكان المعرفة العقلية التي لا تجيء عن طريق التجربة بل التي تكون قبل التجربة " والتي نسميها نحن "الفطرة"، كما يرى كانط كذلك أن :"الأوامر المطلقة في الأخلاق بمنزلة البديهيات في الرياضة والطبيعة " .(2)
وهذا الذي ذكرنا من شبه اجتماع بين الفكرة الأخلاقية القرآنية وبعض الآراء الفلسفية التي يعضدها البحث والاهتداء العقلي أن فكرة الأخلاق شبه متفق عليها والمتمثلة في منظومة (الحق والخير والجمال) كما ذكر ، وما يتفرع عنها من مختلف الأخلاق والقيم والسلوك المطابق ..
أما الادعاء الذي يقول بنسبية الأخلاق واختلاف منظومتها باختلاف الزمان والمكان والمجتمع ، بمعنى أن خلقا محمودا في زمن ومجتمع قد يكون مذموما في ما سواهما ، وأن الحسن والقبح نسبيان لا يجتمع عليهما اجتماع بشري هذا محض ادعاء لا يقوم عليه دليل وإن جرت الحضارة الغربية الحديثة إلى مثله من تراجع واندثار لبعض القيم ، وانتكاس الفطرة البشرية إلى عكس ما عرف من الاديان والتاريخ الإنساني من حسن الحسن وقبح القبيح هذا الذي اتفق على مثله ، وجاءت الآراء والثوابت تؤيده .. يرى (هوبز) أن : ليس في الإنسان ضميرا يصح الركون إليه في الحكم على الأعمال والأشياء ، إن الدين والأخلاق هما من صنع الدولة وإنشاءها ، والإنسان الطبيعي لا يعرف إلا أنانية محضة ، فالخير عنده هو ما يوده ويرغب فيه ، والشر هو ما يضره ويؤذيه ".(3)
لكن سقراط يرى غير ذلك " إن معرفة الفضيلة تكسبها ، والجهل بها مصدر الرذيلة ومأتاها" ، ويقول في كتاب (الفضيلة ) : "نشد من عزم بعض فتيان كرام على الثبات على الخير، ونجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بموعدها "، كما قال " الفضيلة علم والرذيلة جهل"،(4)
كما يرى ديكارت أن "أسمى الخيرات هي ممارسة الفضيلة ، وأن الفضيلة تتوقف على إرادتنا ، وأنه ينبغي على المرء بذل جهده في تغيير رغباته بدلا من تغيير نطام العالم ، وأن يروض نفسه على أن يعتقد أن أراء الإنسان وأفكاره هي كل ما يملك في هذه الدنيا"(5)
أما الإسلام الدين الخاتم الذي حمل جملة أخلاق الشرائع من قبله فقال نبيه (محمد صلى الله عليه وسلم) "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)"}آل عمران{، " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}الأعراف{، وهو يرمز إلى أن منظومة الأخلاق لا تكاد تتجزأ ، فلم يقل (لأكمل ) ، وإنما قال لأتمم ، والتمام هو للجزء الواحد ، اما الكمال فهو لمجموعة الأجزاء ، وهو يعني أنه جاء ليقر كل عرف وخلق اجتمع عليه الناس وارتضوه ولم تأباه الفطرة السوية ..
وقد جاء الإسلام بنفس القيم الأخلاقية الفطرية العقلية المعروفة، ثم لينبذ كذلك ما طرأ عليها من سوء العادات، وما اجتالت به الشياطين البشر فحرفتهم عن جادة الصراط.. وليس هذا بغريب فإنه الدين كله يغرف من معين واحد ، كما يصدر في مصب واحد ..
 فجاءت دعوة شعيب عليه السلام وقد أنكرت على قومه تطفيف المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم، واعتبرت هذا نوع من الفساد في الأرض"وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)" }الأعراف{،  كما جاءت دعوة لوط عليه السلام تدعو إلى العفة والطهر الذين يحفظان الأعراض والأنساب والحرث والنسل ، وأنكرت شذوذ الفطرة والردة الأخلاقية المنكسة لما فطر الله الناس عليه ، وجاء المسيح عليه السلام ينشر الحب بين الناس وإزكاء الخير بين الناس والتسامح "طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته " ، " كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين ، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ، ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة "، وذلك بعدما طغت عليهم المادية في  الديانة اليهودية وأبوا إلا إن يجسدوا كل شيء حتى الإله الذي يعبدونه ، وقالوا "ليس علينا في الأميين سبيل " واستحلوا دماء الأميين من غير (بني اسرائيل) وأعراضهم وأموالهم ، وادعوا لأنفسهم خصوصية عند الله افتراء على الله ..
فإذا كان الناس قد تعورفوا على هذه المنظومة وعملوا بها ، فما دور الأديان .. إن البشر لا تستقيم طبيعتهم على أمر حتى يأتي أصحاب النفوس والضمائر الشاردة الشاذة عن السوية، فيبدلوا ويغيروا ، ويستحسنوا القبيح ويقبحوا الحسن كما يحدث في زماننا حتى في حق الخالق نفسه ، فهم ينكرون وجوده ويقولون على الله مالا يعلمون..
 ولذا جاءت الأديان لتقيم ميزان العدل ، وتقوم ما اعوج من صالح الأخلاق والفطرة وتعيد ما انتكس منها ، وترده إلى جادة الصواب، كما أن الحدود الخلقية التي تحدها الأديان تقطع على الناس ادعاءات النسبية التي يدعونها ، وتضبط دائرة الأخلاق التي تنداح كلما مر الزمن ، وتأخذ منهم أحقية المرجعية التي يدعونها فترجع الحكم فيها لله ولسلطانه ولأمره ، فما أقرته الأديان من خلق فهو قويم ، وما أنكرته فهو منكر وتخرجهم من دعاوى الليبرالية التي تطلق حرية الإنسان إلى غير مدى ، والبراجماتية التي تجعل من المنفعة الشخصية مقياسا للخير والشر ، والاشتراكية التي تمنع الإنسان حقوقه الخاصة وتردها كلها إلى تصرف الدولة والملكية العامة ، والميكافيلية التي "تبرر الوسيلة بالغاية " وتطرح جانبا ثوابت الأخلاق طالما نبلت الغاية فكل وسيلة إليها متاحة محمودة ..
وهكذا باختصار: هذا المنهج الذي قوامه الأخلاق هو لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
المصادر:
 (1) فلسفة الأخلاق (د. مصطفى عبده)
(2) فلسفة الأخلاق (د. مصطفى عبده)
 (3) قصة الفلسفة الحديثة (د زكي نجيب محمود)
(4)مباحث في فلسفة الأخلاق(محمد يوسف موسى)
(5)قصة الفلسفة الحديثة (د زكي نجيب محمود)
الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام(د مصطفى حلمي)

 

 

تعليق عبر الفيس بوك