العقلانية في الإسلام

د. عبد الحميد إسماعيل الأنصاري

كاتب قطري

 

لا أَجِد كتاباً سماوياً يُحرِّض العقل على التأمل والتفكر كالقرآن الكريم، مئات النصوص تستفز العقل على النظر والتبصر، وعدم أخذ الأمور مُسلمات يقينية، آيات عديدة تختم بقوله تعالى (لقوم يعقلون) و(لقوم يتفكرون) و(أفلا يبصرون) و(أفلا تعقلون).

العقلانية التي يبنيها القرآن، عقلانية تسعى لإدراك الحقائق، وتمييز الصواب من الخطأ، ترفض الظنون والأوهام وتعتمد الحجة والبرهان، لا تنساق للرأي السائد دون تبصر، تحاكم القول بغض النظر عن مكانة القائل، فلا يقبل من المسلم أن يُعطل عقله، جرياً وراء التقاليد والعادات وتراث الآباء والأجداد، أو تبجيلاً لشخصيات .

لهذا لم تكن معجزة الإسلام، مُعجزة مادية كمعجزات الأديان السابقة، وكانت معجزة يتناولها العقل بالفهم .

هلا تساءلنا: لماذا رفض الإسلام رفضاً قاطعاً، الاستجابة لإلحاح قريش واليهود المُستمر على الرسول بأن يأتيهم بآية "مُعجزة مادية" مثل الرسل قبله، بل أقسموا لو أتاهم بها لآمنوا؟ لأنَّ الإسلام لا يريد الإيمان الإكراهي الناتج عن الإذعان للمعجزات الخارقة، بل يريد الإيمان المبني على الإقناع العقلاني وحرية الاختيار.

كما نفهم: لماذا كان الباحث عن المعرفة، مأجوراً، أصاب أو أخطأ، يؤكده أن الإسلام، في غير العبادات والعقائد، ترك للعقل حرية التصرف والتدبير في تنظيم الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات، واكتفى بأصول عامة مرنة للعقل فيها مجال كبير .

والذين حاولوا التهوين من العقل، كون المُعتزلة والشيعة والماتريدية، هم أصحاب المنهج العقلي، القائلين بـ"الحسن والقبح" العقليين، وأنهم لا يمثلون ما عليه أهل الحديث المتمسكون بالأثر. والأكثرية السنية التي لا ترى الحسن والقبح بالعقل، بل بالشرع، وأن أهل الحديث ذموا أهل الرأي لأنَّهم أخضعوا الأحاديث للعقل، فلم يقبل إمام أهل الرأي، أبوحنيفة إلا 17 حديثاً، لكن الحكم الشرعي لا يبنى على العقل، لهذا قال الإمام علي (لو كان الدين بالعقل لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) وهو مروية يتعلق بها الخطباء والدعاة عبر المنابر والمنصات الإعلامية .

لكن هذا الكلام لا يستقيم لا أوله ولا آخره، أما أوله: فلأنَّ المدرسة العقلية في التاريخ الإسلامي أصيلة، بل هي الأقدم بين المدارس الإسلامية العقدية، فالمعتزلة، كفرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري في البصرة، أما مدرسة أهل الرأي فهي امتداد لمدرسة عمر وعبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما اللذين توسعا في إعمال الرأي، ومذهب أبي حنيفة، إمام أهل الرأي، الأسبق ظهوراً بين المذاهب السنية الأربع، فقد ولد عام 80 هجري، قبل الأئمة الثلاثة.

أما آخره: فلأن ما نسب إلى الإمام علي، على فرض صحته، مُجرد رأي، متعلق بمجال العبادات التي لا مجال للعقل فيها، فكيف نعممه على المجالات الأخرى كلها للقول إن الدين ليس بالعقل؟! وكيف نتجاهل المئات من النصوص القرآنية المبجلة لإعمال العقل؟! وكيف يذم العقل، وهو شرط التكليف، وعلة الأحكام الشرعية، ومقصد الدين؟!

كيف غاب عنهم، أنَّ أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، هو هذا العقل الذي استحق به الإنسان التكريم الإلهي الذي أسجد الملائكة له؟! كيف تناسوا أنَّ الإنسان هو الكائن الذي ميَّزه المولى، ومنحه نعمة حرية الاختيار بين كائنين لا يملكانها: الملائكة الذين جبلوا على الطاعة، والشياطين الذين خلقوا للعصيان؟!

إنَّ منهج أهل الرأي "العقل" هو الأقرب للتوجه القرآني، وروح الإسلام وجوهره، وأحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على مصالح راجعة للعباد، بنيت على أصول محكمة وعلل ضابطة لها.

ختاماً.. العقل حاكم في كافة الأحكام الشرعية الأخرى (غير العبادات والمغيبات) في تنظيم أمور المجتمع، في شؤون الحياة، في معرفة أسرار وقوانين الطبيعة والكون، في العلاقات بين البشر، في العلوم والمعارف، طبقاً لمدرسة أهل الرأي الذين أخضعوا المرويات الحديثية (وهي أخبار آحاد ظنية الثبوت والدلالة) للمعيار العقلي، فلا سنة بل فقه، طبقاً للشيخ الغزالي، رحمه المولى تعالى.

الأكثر قراءة