مع وثيقة مكة المكرَّمة.. ولكن!

 

 

زاهر بن حارث المحروقي

بَعَث لي بعض الأصدقاء بنودَ وثيقة مكة المكرمة، مع توصية من أحدهم بأن ألقي نظرة عليها؛ وهي الوثيقة التي صدرت في الثلاثين من مايو 2019م، على هامش المؤتمر الدولي حول "قيم الوسطية والاعتدال"، الذي نظَّمته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة؛ وتلك التوصية شجَّعتني على قراءة التفاصيل؛ فإذا بي أجدها في شكلها العام تحمل معاني سامية وأهدافًا جميلة؛ حيث جاء في  بنودها أهمية "مكافحة الإرهاب والظلم والقهر، ورفض انتهاك حقوق وكرامة الإنسان، وتأصيل قيم التعايش بين الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب المختلفة في العالم الإسلامي"، وهي في الأصل قيمٌ إنسانيةٌ نبيلة، لا تحتاج إلى عقد قممٍ وندواتٍ حولها؛ لأنَّها من البديهيات، وممَّا تدعو إليه كل الأديان. وقد تمَّ الاحتفاء بالوثيقة احتفاءً كبيرًا، وكأنها إنجازٌ غير مسبوق، فيما قارب البعض بينها وبين وثيقة المدينة المنورة، التي عقدها الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قبل أربعة عشر قرنًا بهدف تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلى رأسها المهاجرون والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، حتى يتمكن بمقتضاها المسلمون واليهود وجميع الفصائل من التصدي لأيِّ عدوان خارجي على المدينة.

لكنَّ صدور هذه الوثيقة طَرَح عدة تساؤلات؛ منها: هل هي مجرد تنظير وبنود إنشائية؟ وهل المتغيرات السياسية هي التي أوجبت عقد مؤتمر كهذا؟ وما هي الجهة التي ستتولى تنفيذ بنود الوثيقة؟ وكيف يمكن ترجمة دعوة الوثيقة إلى احترام الآخر والتعاون الإنساني وانتهاج الحوار مع الآخر؟ ومثلا: عندما أوصت الوثيقة بعدم التدخل في شؤون الدول، مهما تكن ذرائعه المحمودة، معتبرة إياه "اختراقًا مرفوضًا، لا سيما أساليب الهيمنة السياسية بمطامعها الاقتصادية وغيرها، أو تسويق الأفكار الطائفية، أو محاولة فرض الفتاوى على ظرفيتها المكانية، وأحوالها، وأعرافها الخاصة، إلا بمسوّغ رسمي لمصلحة راجحة"، هنا يأتي سؤال آخر؛ وهو: هل المقصود بذلك دولة معيّنة أم كل الدول؟ فماذا عن الدول التي اعتدت عسكريًّا على دول أخرى، وقتلت الأبرياء ويتَّمت الأبناء ورملت النساء وأثقلت الأمهات؟ ماذا عن الأموال الخليجية التي خرَّبت الأوطان من ليبيا ومصر والسودان واليمن وسوريا والعراق؟ هل بعد ذلك يمكن أن نثق في وثيقة كهذه والتي رعتها الدول التي أسهمت بأموالها في تدمير الأوطان العربية، وما زالت تتدخل في شؤون الدول الأخرى؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.

لم تخلُ الوثيقة من إلغاء الآخر، عندما شدَّدت على "أنه لا يُبْرِمُ شــأنَ الأمة الإسلامية، ويتحدَّثُ باسمها في أمرها الدينيّ، وكل ذي صلة به إلا علماؤها الراسخون في جمع (كجمع مؤتمر هذه الوثيقة)"؛ فحصرُ التحدُّث عن الدين في علماء السلطة، الذين يتلوَّنون ويتقلبون حسب الأهواء السياسية، هو من أكبر المصائب التي نتجتْ عنها كلُّ الجرائم في الأمة؛ فظهرت حركات دموية مشبوهة وكلها تتسمَّى بالإسلام، كما صارت كلُّ طائفة تلغي الأخرى وتكفِّرُها على مستوى الدين الواحد، تنفيذا للرغبات السياسية، فما بالك بالتعايش مع الأديان والأجناس الأخرى؟!!!

وليس خافيًا على أحد ما سبَّبه علماء السلطة من سوء في حياة الناس؛ ففتاواهم جاهزة، يُغيِّرون مواقفهم حسب الطلب، ويستدلون بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في غير موضعها، لتنفيذ ما تريده السياسة، حتى وإن كان في ذلك ما يتعارض مع الإسلام؛ فأوجد ذلك جيلا يكْفر بكلِّ شيء، وبدأت نسبة الإلحاد ترتفع بين الشباب؛ وهي مفارقة عجيبة أن يكون الدعاة هم السبب في تنفير الشباب من الإسلام. وقد توصَّل إلى حقيقة مثل هؤلاء العلماء: عبدالرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، عندما رأى أنه ما من مُستبدٍّ سياسيٍّ إلا ويتخذ له صفة قداسة يشارك بها الله، ولا أقل من أن يتَّخذ بِطانة من سدنة الدين، يُعِينُونه على ظلم الناس باسم الله. وأحدُ أصدقائي يردِّد دائمًا أنّ العالم بدون هؤلاء العلماء سيكون أفضل.

جاء في الوثيقة "التأكيد على أنَّ المسلمين قادرون على إثراء الحضارة الإنسانية بكثير من الإسهامات الإيجابية التي تحتاجها البشرية"؛ وهذه عبارة جميلة لكنها فضفاضة؛ فهم بالفعل قادرون، ولكن تحقيق ذلك يحتاج إلى إخلاص وجهود وعمل، ولن يتحقَّق بمجرد عقد قمة وصدور بيان إنشائي عنها، فما هي الآلية التي ستحقق ذلك؟ فقبل كلِّ شيء، الأمر يحتاج إلى الوحدة والاتحاد، ولن يتم ذلك إذا كانت الأحقاد هي المسيطرة على الحكام والعلماء، حتى انتقل ذلك الحقد إلى العوام من الناس؛ فالذي يريد أن يبني المستقبل يجب عليه أن يطرح سيئات الماضي وصراعاته جانبًا. فلا يمكن أن نهتم بالحاضر والمستقبل ونحن ما زلنا نتقاتل حول أحقية الخلافة، ومآسي الأمويين، ونسُبُّ ونلعن أمهات المؤمنين والصحابة، ونتنابز بالألقاب ونصفُ بعضنا البعض بأنَّ هذا ناصبي وهذا رافضي وهذا خارجي وهذا قبوري... وغيرها من الألقاب التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذا غير التأخر في الميادين العلمية والثقافية والتقنية وغيرها، والتي جعلت الأمة تتسوَّل أبسط أسباب الحضارة؛ لأنَّ الخلل في الأصل كان في الحكومات.

وعلى ضوء مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية السابقة، من الخير أن لا يتفاءل المرء بهذه الوثيقة؛ فهي مجرد حبر على ورق، رغم ما قيل عن حضور المؤتمر أكثر من 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة مثلوا 27 مكونًا إسلاميًّا من مختلف المذاهب والطوائف -وهي أول مرة يتم الإشارة فيها إلى هذه المكونات الإسلامية- فالعملُ يحتاج إلى إرادة، وإلى قيادة حقيقية تؤمن بالإسلام وتؤمن بالمسلمين، وإلى علماء ربانيين مخلصين لله سبحانه وتعالى، بعيدًا عن المطامع الدنيوية، التي تجعلهم مجرد مطايا في أيدي السياسيين، والسياسيون ألعوبة في يد غيرهم. وإذا كُنت لست متفائلا، إلا أنَّني لا أُحبِط المتفائلين، فأقول: لننتظر ونرى، فلعلَّ وعسى.