"سلميّة" السودانيين تُعرّي محور الشر

محمد علي العوض

 

تصارع الثورة السودانية مؤامرات واستخبارات دول إقليمية عدة؛ تخاف على قوتها وآلتها العسكرية العاتية أن تتحقق نبوءة "الفيتوري" فتسري العدوى إلى شرايين شعوبها لتحقنها بأشواق الحرية والديمقراطية:

أخائفٌ أنت؟
تنام يا مولاي
مهموماً وتصحو متعباً
أخائفٌ انت؟
تلبس تاجاً من ذهب 
وجبة من الحرير والقصب 
وحولك الحجاب والحراس بالألوف 
ثم تخاف؟
أهذه نهاية المطاف؟

السودانيون الآن كما يقول مدني عباس مدني -عضو قوى الحرية والتغيير- يخوضون معركة نيابة عن الإنسانية جمعاء؛ ليقبروا محور شر محلي وإقليمي ودولي تلاقت نواياه الخبيثة في السودان. ويحاول بعد أن أوعز للمجلس العسكري الانتقالي تطبيق سيناريو رابعة المصري وفض الاعتصام المرابط أمام بوابات الجيش بالخرطوم الظهور بمظهر "برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين" والتملص من تبعات مجزرته النكراء التي أسفرت عن إصابة أكثر من 300 جريح ومقتل أكثر من 100 شهيد قضوا نحبهم على يد مليشيات المجلس العسكري الانتقالي في الـ 3 من يونيو الجاري؛ بعد نكوصه عمّا تم الاتفاق عليه مع قوى الحرية والتغيير الممثلة الوحيدة لشرعية الثورة.. فما إن زار أعضاء المجلس العسكري الانتقالي دولا إقليمية حتى بدأ المجلس في تغيير نبرته تجاه المعتصمين والتكشير عن أسنانه تمهيدًا لقلب ظهر المجن والكشف عن وجهه الحقيقي الطامع في السلطة والحكم، ولا تتناطح عنزان حول دعم هذه الدول للمجلس العسكري بالمال والمواقف السياسية حماية لمصالحها الإقليمية والداخلية وعلى رأسها إجهاض المد الثوري، وحرب اليمن والمقاطعة القطرية وحرب السيطرة على الموانئ التي تدور رحاها على سواحل البحر الأحمر؛ ففي تقرير بمجلة ديلي بيست الأمريكية كتب "ديفيد لينش" أنّ القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم "كوتسيس" أعرب خلال اجتماع لمراقبي السودان في العاصمة الأمريكية مؤخرا عن تعاطفه مع المجلس العسكري الانتقالي في الخرطوم، وقال إنّ على أمريكا أن تتماشى مع مصالح السعودية ومصر والإمارات. وعلق لينش بأنّ ما قاله كوتسيس في ذلك الاجتماع كان غامضًا ومربكا لكثيرين في الغرفة، لدرجة أنّ صمت الحاضرين المندهشين دفعه لسؤالهم عمّا إذا كانوا يعتقدون أنّ المصالح الأمريكية في المنطقة تختلف عن مصالح تلك البلدان الثلاث. وأوضحت ذات المجلة أنّ السعودية تدعم محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري في السودان" -المتهمة قواته بارتكاب جرائم حرب في دارفور- للقفز إلى السلطة بعلم أمريكا وموافقتها"؛ بعد أن أعلن انحيازه للثورة مطلع أبريل برفضه فض الاعتصام بالقوة المسلحة تحت راية البشير ليأتي بعد شهرين ويفضه تحت رايته هو، أيّ أنّ ما حرمه على البشير من حصد أرواح أباحه لنفسه.

المجزرة أهالت المجتمع الدولي وأحرجت المحور الداعم لعسكر الخرطوم، فطفق يدعي القلق ويدين المجزرة ويدعو لأهمية الحوار، فأكثر المتشائمين لم يكن يتوقع أن تصل الدموية وأعداد القتلى لهذا الحد؛ فخرجت صحفه المساندة للمجلس العسكري بتبريرات ساذجة للفجيعة، وأكثرت من وضع مساحيق التجميل على وجه "حميدتي" المغرر به على حد زعمها من "الإخوان" وفلول النظام السابق؛ حيث أوردت صحيفة الاتحاد الإماراتية في عدد الإثنين 10 يونيو بأنّه تمّ إقناع "حميدتي" من خلال بقايا النظام البائد بفض الاعتصام بالعصي والسياط، وعندما بدأ فعلياً فض الاعتصام تدخلت "كتائب الظل" التي ترتدى زي "قوات الدعم السريع" وأطلقت الذخيرة الحية على المعتصمين، وقد بلع "حميدتي الطعم".

أيّا كانت نتيجة التقاذف بكرة اللوم، فالحقيقة الناصعة أنّ المجلس العسكري ارتكب مجزرة حين فض الاعتصام بالقوة، وأطلق النار على قدميه بنفسه حين كفر بالثورة ووضع نفسه في خانة "الجهة الانقلابية"؛ فلم يعد محل ثقة أو شريك ثوري؛ الأمر الذي جعل الأصوات ترتفع عاليا بوجوب الإطاحة به ومناوءته بشتى السبل، لذلك نثر الشعب السوداني كنانته ليختار بين الإذعان للواقع والرضا بصعود المجلس الانقلابي على سدة الحكم فوق جثث الشهداء، أو أن تختار الثورة طريق الكفاح المسلح لتحمي نفسها وتدافع عن شعبها أسوة بما حدث في سوريا وليبيا؛ وبالتالي تحمل ما يسفر عن ذلك من تشرذم ونزوح وانفلات أمني خطير؛ إلا أنّ الاختيار وقع على مبدأ السلمية كخيار ثالث خبر السودانيون نجاعته ونجاحه حينما شيّع "البشير" إلى مزبلة التاريخ بوصول ملايين المتظاهرين إلى بوابات القيادة العامة للجيش بالخرطوم في السادس من أبريل الماضي.

إحدى طرق السلمية هذه كان العصيان المدني الشامل، الذي نفذه السودانيون بحر هذا الأسبوع من أجل الضغط على المجلس العسكري حتى يعود إلى جادة الصواب ويعترف بمجزرة القيادة ومحاسبة كل من تورط فيها، بجانب اختفاء مظاهر العسكرة عن شوارع الخرطوم، وإرجاع خدمة الانترنت التي من قطعها في البلاد طمسا لمعالم الجريمة وتوثيقها، وقبل كل ذلك تسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية.

عند الموعد تماما استجابت قطاعات الشعب لدعوات العصيان الذي استمر لثلاثة أيام متواصلة بدأت الأحد الماضي فأصبحت الخرطوم على إثره مدينة هادئة تسكن الأشباح أكبر شوارعها، تنعدم فيها حركة المارة وتبدو الأسواق شبه خالية، حتى المصارف التي تنعدم فيها السيولة أغلقت أبوابها بعد أن أغلق البنك المركزي أبوابه، وتوقفت حركة الملاحة الجوية والبحرية.. مقاومة "الأبواب المغلقة" وهاشتاق (#العصيان_المدني_الشامل) حققا نسبة نجاح عالية تمثلت في تغيير لغة المجلس العسكري وإشارته لضرورة الحوار والتفاوض.

لم تعد الثورة السودانية ملكًا لشعبها وحده فقد باتت أملا وشمسًا نيرة تضيء طريق آخرين، ولسان حال شعوب مقهورة طال ليلها وتمطى حتى ناء بكلكل؛ برغم مساعي الإجهاض وقفل باب الأمل أمام الشعوب العربية المستضعفة التي يركع حكامها تحت أقدام الإمبريالية العالمية والقطب الأوحد الذي لا يفهم من لغة الإنسانية إلا لغة البترودولار والنهج البراجماتي؛ وهي ثورة لو قدر لها النجاح فستقلب العالم العربي رأسا على عقب وستغير مستقبل إفريقيا للأبد أسوة بالثورة الفرنسية التي شكلت التاريخ الأوروبي الحديث، وستبدأ في تشكيل سودان جديد قوامه الحرية والكرامة والمساواة.