ساحل الباطنة .. الذاكرة المهشمة

 

د. بدر الشيدي

 

في يوم شتائي ذهبت إلى البحر، فإذا بأحد كبار السن يجلس على حجر مُقابل الشاطئ، عرفته من هيئته، فخطوت ناحيته، وعندما اقتربت منه، رأيته صامتاً، شاردًا يحدق للبعيد، رفع رأسه وتلاقت عينانا .. اغرورقت عيناه بالدمع، كان ينظر لكومة من الحجارة وأخرى متناثرة في المكان، عرفت أنه يريد أن يقول شيئاً، لكنه فضل السكوت، أشاح بوجهه، ولاذ بالصمت.

 ذات يوم كتب الناقد الفني الشهير جون راسكين "إن الآثار لا تنتمي للأجيال الحالية، ولا يحق لأحد أن يعبث بها، ويجب حفظها تماماً كما وجدت في حالتها الآنية".

 وها نحن، مع دخول مشروع طريق الباطنة الساحلي عامه التاسع، تكون ذاكرة كبيرة ذات أهمية قد مُسحت وآلت إلى النسيان، لعل الأجيال القادمة سوف تتساءل عندما تعبر الطريق، وتشاهد الطريق، أكان لهذه المنطقة سكان وذاكرة؟ أين هو أثرهم؟

عندما تغرس آلة الهدم معولها في جدار منزل أو دكان قديم يتوسط حارة أو جدار عيادة قديمة أو شارع بين البيوت، تهدم معها ذاكرة وعندما تسقط طوبة حجر تسقط معها ذاكرة.

المكان رافق الإنسان منذ النشأة الأولى، فكلما تواجد الإنسان في مكان إلا وكانت له ذاكرة وماضٍ يتوالد مع الأيام ويكبر ويزهر مع مرور السنوات. وكما للبشر روح وذاكرة، فللمكان روح أيضاً، تذبل وربما تمرض، ولكنها لا تموت، وتكون عصية على الفقدان والمحو.

وبالرغم من كون تلك الذاكرة المتمثلة في مجموعة من الشواهد والمباني والآثار وغيرها ثابتة في مكانها لا تتزحزح مهما تعرضت لعوامل الطبيعة والتعرية، إلا أنها لها روح، قد لا تتكلم ولكنها بالتأكيد تتنفس لها حياة بل حيوات كثيرة.

إنه لمن الطبيعي جداً أن يميل الإنسان إلى مرابع طفولته ويعمد لتسجيلها في ذاكرته فالشارع الذي لعب فيه ذات يوم والمدرسة التي درس فيها وهنا المسجد الذي يتذكر أول مرة ذهب إليه مع والده وتعلم فيه الصلاة وهناك المدرسة السعفية أو الطينية التي تعلم فيها الحرف العربي ويتذكر المكان الذي كان يضع فيه لوحه ليعود إليه في الباكر وهناك الأسواق والنخيل والمزارع والطوي البئر الأولى وغيرها. لنتصور جميعاً كيف ستذهب ذاكرة الناس والمكان للمحو وللنسيان، ووجوه كثيرة وعائلات وقصص حب وغرام، وانتقام وحكايات قديمة كل ذلك التاريخ سيتم محوه في لحظات بسبب ارتباطه بالمكان.

من منِّا لم يستظل يوماً تحت جدار بيت أو من منِّا من لم يغص في زقاق تلك الأسواق العتيقة التي لا زالت تحمل روائح وعبق الماضي الجميل. بل يمكن القول بأن تحت كل حجر في منطقة ساحل الباطنة حكاية تنتظر من يرويها أو يسردها.

ربما نحن الجيل الذي عاش في تلك المنطقة ذاكرتنا مشحونة بالأحداث والحكايات والذكريات المرتبطة بهذا المكان وتلك الشجرة وذاك المبنى. لا زالت ذاكرتنا مُتقدة، فعندما نعبر من تلك الأسواق، لا زالت أصوات الباعة تتردد في المكان نسمعها، لا زلت أتخيلهم يقفون أمام دكاكينهم يبتسمون للمارة. أسماء كثيرة اختفت وجوههم، وبقيت أصواتهم في أروقة الأسواق وبين الدكاكين.

 منطقة ساحل الباطنة الممتد بولاياته سطرت على سواحلها بطولات يذكرها التاريخ العماني. فولاية بركاء والمصنعة والسويق والخابورة وصحم وصحار ولوى وشناص. من منِّا ينسى على سبيل المثال سوق السويق القديم، ومبنى المستشفى على شاطئ صحم أو مباني الفرض الجمركية التي كانت منتشرة على طول الساحل ودورها في التبادل التجاري. من منِّا ينسى مزارع الليمون الجاف في صحم. جماليات المباني بأبوابها العتقية وطرازها الهندسي المُميز الذي يعبر عن ثقافة المكان.

أبناء المنطقة كان لهم نمطهم الخاص في العيش والتكيف مع البيئة البحرية فبنوا بيوتهم وفق طراز معماري ربما يكون مميزاً لتلك المنطقة، لكن للأسف كل هذه الذاكرة تختفي كل يوم تحت الضربات المتتالية للآليات المجنزرة التي ما فتئت تغرس معاولها في أجساد تلك المباني فتطيح معها ذاكرة مشحونة، كل سكة ومبنى قديم سواء منزل أو دكان في سوق شعبي أو مسجد في حارة أو حتى جدار، أو شاشة هملت على الساحل، غني عن القول بأنها جميعاً تحمل ذاكرة وتاريخا معينا.

هناك الكثير من الأعمال والمشغولات التي استقرت في الوعي الجمعي للناس وخصوصاً سكان هذه المنطقة، تلك الأعمال التي تصبو أمام الوعي البصري والسمعي وتشغل حيزا من الذاكرة، بحيث تصبح هذه الأعمال ضمن التكوين الثقافي والسياسي والديني لسكان هذه المنطقة. فإذا افترضنا أن لكل شيء هدف ورسالة يؤديها، فما هي يا ترى الرسالة والهدف التي كان يؤديها أو تؤديها هذه الأماكن والمتمثلة في مباني وأسواق ومزارع اعتاد الناس على ارتيادها وطبعت ذاكرتهم وسلوكهم.

إنَّ فكرة الحفاظ على الهوية لا تتأتى إلا بالحفاظ على الذاكرة الجمعية المتمثلة في الأماكن والتراث، والشعوب دائماً ما تكون تواقة إلى ماضيها ورمز هويتها، لذلك عملت على تطوير فكرها في الحفاظ على ذاكرتها. فبقاء تلك الشواهد والآثار شاهد على حضارة بشرية سكنت ذات يوم، هي بالتأكيد سمة حضارية للشعوب، فكما نحن اليوم نتغنى بماضٍ جميل نستدل عليه بالشواهد الباقية والمحافظ عليها لهو مدعاة للفخر والتباهي. ويبقى التراث والشواهد مادة للفخر تحفظ ذاكرة الشعوب، ومع مرور الزمن تتحول إلى مادة للخلود، مما جعل الناس توثق حياتهم بمبانٍ ورسوم وغيرها. وبالنظر إلى أهمية تلك الشواهد، انتشرت في القرن التاسع عشر، وخصوصا في أوروبا حركة فنية تدعو إلى حفظ ذاكرة الشعوب من خلال ترميم الآثار وإرجاعها إلى حالتها الأصلية، إلا أنه ومع مرور الزمن وتغير الأذواق ظهرت حركة وخصوصا في فرنسا تدعو إلى الإبقاء على الآثار كما هي دون المساس بها، دون تجميل أو ترميم صوري مصطنع، فالآثار كما هي تحمل دلالة رمزية لما حدث في تلك الأزمان.

بلا شك أن هناك وعياً يتزايد بأهمية الذاكرة وحفظها من بشاعة النسيان وبقاءها كهوية محلية وإرث حضاري إنساني، قادر على التواصل بين الأجيال المختلفة. فكما شاهدنا في مناطق كثيرة من بلدنا، نزوى مثلاً، عمد بعض المواطنين إلى تبني مبادرات جميلة في تحويل المباني القديمة إلى فنادق صغيرة (نزل) ومطاعم وغيرها، في مدن عربية كمراكش وفاس وتونس كان لهم مبادرات مشهورة في ذلك.

جميل جداً أن يفكر بتطوير الساحل ولا شك أن تلك نظرة ثاقبة وحكيمة من صاحب الجلالة تحمل في طياتها أبعادا اقتصادية وتجارية وسياحية وقبل كل شيء رفاهية وراحة أبناء تلك المنطقة التي بحق هي واجهة حضارية ومخزون سياحي للبلد إذا ما وضعت الخطط الكفيلة بتحويله إلى مكان يدر مردودا اقتصاديا كبيرا.

في الوقت ذاته، كنَّا نتمنى لو تبنت الجهات الرسمية مبادرات مشابهة. وتم ترميم بعض المنازل والأسواق والمساجد، أو حتى أبقتها على حالها. ماذا لو وضعت الخطط الكفيلة التي تحفظ ذاكرة الناس الذين سكنوا هذه المنطقة، وتم تأهيل المكان بشكل عام بما يُحافظ على تلك الميزة، وبث الروح فيه من جديد.

تعليق عبر الفيس بوك