متى ستصبح القراءة لقمة عيش؟

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

رغم أنَّ الكتب في كل مكان من حولنا الآن؛ ورغم أنَّ مصادر المعرفة المختلفة أصبحت متاحة في هواتفنا؛ ورغم أنَّ اللغات هي مادة أساسية في مدارسنا وجامعاتنا إلا أننا نواجه أزمة قراءة لها انعكاساتها على مجتمعاتنا وتفكيرها واتجاهاتها ونظرتها لكثير من القضايا التي تواجهها.

ولقد رأينا مؤخرا أثناء تتويج الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بالجائزة العالمية أننا لا نزال نتوجس من الكتب وما تحمله من مضامين رغم ضعف التوجهات نحو القراءة؛ فكاتب يصدر قبل عشر سنوات من قبل كاتب يعيش بين ظهرانينا لم يلتفت إليه أحد إلا بعد أن وجه العالم إليه الأنظار يؤكد ضعف النزعة إلى القراءة، وهذا أحد الأمثلة على الموقف من القراءة، ناهيك عن ما يذكر المعلمين عن صعوبات القراءة لدى الطلبة في مختلف المراحل وما يرتبط بها من إشكاليات أخرى مثل ضعف القدرة على التعبير والتفكير، والحوار، وانتشار الشائعات، وغيرها من العوارض التي تجعل المجتمع يبتعد عن الآلية التي ترقى به؛ وبغرق أجياله الصغيرة في بئر الاستهلاك العميق الذي لا نهاية له؛ حيث لا تعطى قيمة إلا للأشياء التي لا حدود للتطلع إليها؛ في الوقت الذي تحتاج هذه الأجيال إلى ما يرقى بوعيها ويصل شخصيتها ويفتح أذهانها إلى العالم بثقافاته المختلفة، وبذاكراته الخصبة، وبتاريخه وتصوراته المُتعددة فينشأ فرد لا ينظر إلى المعرفة والقراءة مجرد وسيلة لتحقيق غاية هي النجاح إنما ينظر إليها وسيلة لتحقيق الكمال الإنساني.

 وهو ما نود التأكيد عليه والناس تبدأ فصل الصيف الطويل حيث لا مدارس ولا جامعات؛ ولا برامج ثرية إلا تلك البرامج الروتينية المكررة في برامجها التي تنفذها كثير من الجهات الرسمية أو الخاصة تحت مبرر توفير فرص للطلبة لقضاء وقت فراغهم في معظم أيام هذا الفصل؛ في وقت كان يُمكن أن نستثمر هذا الفصل لتوجيه الجهود لمُعالجة إشكالية مثل القراءة والضعف فيها والتي تؤثر علينا بشكل حاد يستمر لسنوات طويلة من حياة الفرد.

القراءة تمر بأزمة في الوطن العربي ككل وليس عندنا؛ ولا أظن أننا نسينا المؤشرات التي صدرت في بداية كل عقد من العقدين الأخيرين؛ الأول تقرير التنمية البشرية الصادر عن اليونسكو في عام 2003م، والذي أكد أن كل (80) مواطنا عربيا يقرأون كتاباً واحد في حين يقرأ كل مواطن أوروبي لوحده (35) كتابا سنوياً؛ والفجوة نفسها أكد عليها تقرير التنمية البشرية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي عام (2011) والذي أشار إلى أن العربي يقرأ بمعدل (6) دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدل (200) ساعة سنوياً؛ ولا نملك مؤشرات رقمية عن القراءة لدى المواطن العماني وربما يكون هو نفس المعدل العربي؛ وبغض النظر عن الأرقام فهناك فجوة كبيرة في الاتجاه نحو القراءة والكتب وهي فجوة تزداد إذا انتقلنا إلى نوعية ما يقرأ هل مادة مفيدة ترقى بالذوق والتفكير والوعي أم مواد سطحية تهبط أكثر بهذا الوعي وتشوهه، وبالتالي لماذا لا نعمل على مقاومة إشكالياتنا من خلال القراءة؛ ونجعلها أولوية وطنية تتكاتف جهود المؤسسات المختلفة فيها خاصة خلال فصل الصيف، خاصة وأنَّ المؤشرات التي حصلنا عليها مؤخرًا من خلال رسالة ماجستير أجرتها يمامة المعمري حول المواطنة الرقمية لدى طلبة الصف الحادي عشر بمسقط تسير إلى أنَّ غالبية أفراد العينة من الطلبة يقضون بمعدل (3-4) أربع ساعات يوميا في استخدام شبكات التواصل، لغرض التعارف والتواصل مع الأصدقاء وهو معدل من المؤكد أنه سيرتفع خلال فصل الصيف؛ هذا ونحن نتكلم عن مسقط التي فيها فرص ومنافذ متعدد لممارسة الهوايات والأنشطة؛ فما بالكم بالطلبة في بقية المحافظات التي لا تتأتى فيها هذه الفرص؟

إن الدول والمجتمعات والأفراد والمربين عبر العالم يعملون على زرع حب المعرفة والقراءة لدى أجيالهم؛ ونحن ينبغي ألا نظل متفرجين، علينا أن نتعلم من سعي المجتمعات لبناء أفراد مثقفين يكون الكتاب والقراءة من أولويات حياتهم اليومية؛ فهذه اليابان ترسل فريقا متخصصا إلى معرض ميونخ سنويا لانتقاء الكتب التي يمكن أن تترجم لأطفالهم بمعدل (200) عنوان سنويا؛ وهذه بعض مكتبات ألمانيا الكبرى تقدم برنامجا اسمه "كلمة قوية" لتشجيع القراءة واكتساب اللغة للشباب الألمان لكي يكونوا أقوياء كالكلمة التي يقرأونها، وهناك الكثير مما قام به المتطوعون والأساتذة مما يمكن أن يكون منطلقاً لمبادرات تنطلق هنا لمقاومة واقعنا ومشكلاتنا الحالية والمستقبلية بالكتاب، ولإعادة بناء علاقة حميمة مع الكتب تساعدنا على تقليص الفجوة المعرفية بيننا وبين الآخرين في هذا العالم؛ الذي يتشبث بالقراءة رغم كل التحولات التي يعيشها في وقت يتشبث مجتمعنا بتربية الأطفال على الترفيه والاقتناء رغم كل التحولات التي نعيشها.

لاشك أننا نحتاج إلى إطلاق مبادرات ثقافية من قبل مختلف الجهات الفاعلة ثقافياً لتشجيع استثمار أشهر الصيف في الحد من تفاقم مشكلة القراءة وضعفها؛ سواء كان الأمر بإطلاق معسكرات للقراءة أو مدارس مؤقتة لها؛ أو بعمل المسابقات مثل تحدي القراءة؛ أو بعمل المعارض المتحركة إلى مختلف المحافظات لتشجيع القراءة؛ أو بتخصيص البرامج التلفزيونية والإذاعية لمناقشة الكتب المناسبة للأطفال؛ أو بتأسيس أندية القراءة بالقرى والولايات لتوجيه هذه القراءة وإقامة المنشاط المصاحبة لها؛ ويمكن أن يكون هذا الحراك مرتبطا بالتطوع والخدمة الاجتماعية من قبل خريجي مؤسسات التعليم العالي حيث يقومون بمساعدة الطلبة الصغار على القراءة، والأمر أيضاً يتوقف على مشاركة الأسرة التي يفترض أن تضع برنامج قراءة لأطفالها لإنجازه خلال هذا الصيف؛ فدور الأسر لا يتوقف على توفير ألعاب أو تسجيل الأبناء في مراكز صيفية أو أخذهم لرحلة لمدة زمنية محددة، إنما هناك مهمة معرفية لابد من الاشتغال عليها مع أطفالهم، ويمكن أن يعزز من هذه الجهود القطاع الخاص في دعم المبادرات التي تنبثق في هذا المسار والتي تتفق وأهداف المسؤولية الاجتماعية التي تتبناها هذه المؤسسات التي تستهدف مساعدة المجتمع على التغلب على إشكالياته سواء ببرامج تعليمية أو بتبرعات عينية. فمتى سنُدرك أن القراءة هي المفتاح الحقيقي للمستقبل الذي ننشده؛ والحل المستدام للمشكلات التي نواجهها؟ أو هي كما قال محمد البرادعي هي المعرفة أو لقمة العيش هي الحرية والكرامة وهي التقدم في مجال الحياة.