القوة الناعمة (1- 2)

 

عبيدلي العبيدلي

تسود مفاهيم في فضاء الفكر السياسي العربي، وربما الدولي أيضًا، ترى أنَّ القوة العسكرية، أو النفوذ السياسي المحض، أو حتى التفوق الاقتصادي، هي العناصر الأساسية الوحيدة التي تتشكل منها قدرة هذه الدولة أو تلك، أو تسمح لأي منهما بأن تبسط نفوذها على رقعة سياسية معينة، خارج حدود حدودها الذاتية.

لكننا اليوم بتنا نقرأ عن قوة أخرى برزت على سطح فضاء العلاقات الدولية والدبلوماسية، يطلق عليها "القوة الناعمة"، وأحياناً يصفها البعض بــ "القوة الذكية"، والتي تناسلت من مصادر القوة الأولى، وباتت تشكل ركناً أساسياً من أركان الصراعات الدولية على مناطق النفوذ، وتمثل مرتكزا مهما عند وضع الاستراتيجيات التي تحكم حركة المتصارعين على بسط نفوذهم خارج نطاق دولهم.

وهناك اختلاف على تاريخ ظهور هذا التعريف في المعاجم السياسية، فالبعض يغوص به في أعماق التاريخ ليصل إلى استخدامه من قبل "إمبراطوريات الشرق ... كالحضارة الفرعونية... والحضارة الفارسية (من أجل) إنشاء صروح في المناطق المستولى عليها ... كما وصفها علماء آثار بأنها كانت بمثابة (دعاية سياسية) للحكام للدلالة على عظمتهم، والأمر ذاته تكرر بعد غزو الرومان لمناطق شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، ما يظهر جليًا في المدرجات والأبنية الرومانية".

أما الكاتبة مي محي عجلان، فرغم تأكيدها على "جوزيف ناي أول من صاغ مفهوم القوة الناعمة في صورة نظرية مقنعة ومحكمة البناء"، لكنها تعود بجذور المصطلح إلى "القرن العشرين عبر الفيلسوف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي - Antonio Gramsci  في نظريته الهيمنة الثقافية في مؤلفه المهم (رسائل السجن)، فقد أوضح أنَّ الهيمنة الرأسمالية تكون من خلال مؤسسات كالمدرسة والكنيسة والجرائد والتي تخلق صورة جيدة لدى العامة عن النخبة الرأسمالية بهدف السيطرة على عقول هؤلاء وضمان عدم خروجهم عن سياق المُجتمع الرأسمالي". ولا تكتفي عجلان بالوقوف عند هذا الحد بل ترى أن "أهم المُفكرين الذين عرفوا القوة الناعمة نجد تعريف ميشيل فوكو - Michel Foucault الذي يعتبر أنَّ القوة الناعمة هي إجبار وإلزام غير مباشرين وسجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل الدولة وخارجها وطبقاً لهذا التعريف فإنَّ القوة الناعمة تكون موجهة للداخل والخارج وليس للخارج فقط ".

لكن جميع المصادر، بما فيها تلك المشار لها أعلاه تجمع على أنَّ المساعد السابق لوزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والرئيس السابق لمجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية،، جوزيف ناي هو الذي صاغ هذا المصطلح في كتابه الصادر في العام 1990 بعنوان (مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية). ثم قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر في العام 2004 بعنوان (القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية). وبات هذا المصطلح متداولاً على نطاق واسع، "عندما يجري الحديث في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين". وقام بنقل مؤلف ناي الأخير إلى اللغة العربية محمد توفيق البجيرمي.

ووفقاً لتعريف ناي فإنَّ القوة الناعمة هي بمثابة "القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهـر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوي وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الاستراتيجيات التقليدية الأمريكية، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد".

وبخلاف ما يتوهم البعض، لم يعد وفقاً لما جاء كتاب ناي (القوة الناعمة)، "استثمار القوة الناعمة على الدول حصرا على الدول الكبرى كالولايات المتحدة، إذ إن عددًا من الدول الآسيوية، باتت تمتلك أيضاً مصادر محتملة مثير للإعجاب؛ ذلك أن فنون وثقافات آسيا القديمة وأزياءها ومطابخها، كان لها من قبل تأثير قوي على أجزاء العالم الآخر طيلة قرون".

وفي اختصار شديد يعرف ناي القوة الناعمة على أنها "القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. في الآونة الأخيرة، تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية. إذ قال جوزيف ناي إنه مع القوة الناعمة أفضل الدعايات ليست دعاية"، موضحاً أنه وفي عصر المعلومات، تعد "المصداقية أندر الموارد".

رغم ذلك التعريف الغاية في التحديد لمفهوم القوة الناعمة، لكن برزت، لاحقًا، العديد من الاجتهادات الأخرى التي تباينت في حصر القوة الناعمة في مفهوم محدد. هذا ما تُشير له دراسة معمقة صدرت عن مركز الدراسات الإستراتيجية في مكتبة الإسكندرية، من تأليف علي جلال معوض، بعنوان "مفهوم القوة الناعمة وتحليل السياسة الخارجية"، جاء فيها " وعلى الرغم من ذيوع وانتشار استخدام مفهوم القوة الناعمة على جميع المستويات الأكاديمية والرسمية وغير الرسمية، فإنَّ تعريف المفهوم وأبعاده الأساسية يظل موضع اجتهادات متعددة تضيق من نطاقه تارة؛ بحيث يكاد يقتصر على بعض الموارد الثقافية ذات الطابع الإمتاعي أو الترفيهي، وتوسع من نطاقه تارة أخرى؛ بحيث يشمل جميع الأدوات والتفاعلات ذات الطبيعة التعاونية بما في ذلك استخدام الأدوات والآليات الاقتصادية، وأحيانًا العسكرية في صورها غير الصراعية؛ مثل المعونات العسكرية وبرامج التدريب والمناورات المشتركة وغيرها".

وتأسيساً على ذلك التعريف، اجتهد الكثيرون، ومن بينهم الكاتب محمد الهزاني، في وضع معايير لقياس القوة الناعمة، تتلخص في أربع نقاط مركزية هي:

تعد ثقافة المجتمع ومدى انتشارها إقليمياً وعالميًا من مؤشرات قياس القوة الناعمة، سواء كان هذا الانتشار عبر المنتج الأدبي الرفيع وتعزيز جهود الترجمة للإبداعات الفكرية والفنية، أو من خلال الثقافة المجتمعية الشعبية المتنوعة بتنوع المناطق، وما تنتجه من فنون مختلفة، إضافة إلى المشاركات الرياضية وتحقيق البطولات والمراكز المُتقدمة.

التعليم هو حجر الزاوية، إذ يُعد استقطاب الطلبة الأجانب من مختلف الدول عاملاً مهماً يُسهم في تعزيز القوة الناعمة للدول.

وجود أنموذج اقتصادي محفز وتقدم تكنولوجي يجذب الدول لإقامة علاقات شراكة واتفاقيات متنوعة من أهم المؤشرات على فعالية القوة الناعمة لأي دولة.

عبر استطلاعات الرأي العام التي تجريها مراكز الدراسات والأبحاث المنتشرة في مختلف دول العالم، والتي تحلل هذه الاستطلاعات وتخرج بنتائج تُساعد في رسم السياسات المحلية والدولية.