ازدهار وأفول الحضارات

حاتم الطائي

العدل والحكم الرشيد والنمو الاقتصادي قواعد أساسية لبناء حضارة راسخة

الشعبوية والانغلاق والشعور المتنامي بالقوة من عوامل انهيار الحضارات

الحضارة الصينية بقيمها وعوامل تقدمها ستسود العالم خلال العقود المقبلة

تأفُل الحضارات وتشيخ وتنهار تمامًا كما تتساقط الأبنية القديمة وتتداعى، شأنها شأن الأيام والدهور والأزمان.. إذ لا ثابت في هذه الحياة الفانية.. الكل متغير.. فمن سره زمن ساءته أزمان، وما غرُبت شمس حضارة هنا حتى أشرقت شمس حضارة أخرى هناك؛ على الجانب الآخر من الكون، وحتى لا يقع المحظور وتتهاوى الحضارة الجديدة يتطلب تأسيس مكوناتها وعناصرها ومظاهرها على ركائز وأعمدة صلبة وأفكار جديدة، غير أنَّ مثل هذه العملية تتطلب وقتًا؛ وفي عمر الحضارات فإنَّ صعود أو هبوط حضارة يستغرق عقودا وربما قرونا، لكنّها دورة التاريخ التي لا يُمكن لأحد إيقافها. ولقد أسر هذا الموضوع الحيوي العديد من المفكرين والمصلحين ومن أبرزهم العلامة ابن خلدون، الذي تناول بالبحث والقياس والتحليل أسباب وعوامل قوة وضعف الحضارات في كتابه "المُقدمة".

ونحن مقبلون على ختام العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يبدو لي أنَّ الحضارة الغربية بدأت مسار الهبوط قبل نحو عقد أو ما يزيد من الآن، وربما ستكون هذه الحضارة من أسرع الحضارات التي تنزلق في غياهب الانهيار والتدمير الذاتي، فلا أظن أنَّ الحضارة ستنكسر وتتراجع بسبب معارك خارجية أو حروب تخسرها، بل سيكون نوعًا من التدمير الذاتي والانهيار من الداخل.

والحضارة في أي عصر من العصور هي تلك القيم والمبادئ والثقافة الإنسانية المُستندة إلى مجموعة من الأفكار الرائدة، والمرتكزة على المشروعات النهضوية التي تدفع المنظومة الحضارية إلى الأمام وتُحافظ على تماسكها في وجه التحديات والعراقيل. والحضارات منذ فجر التاريخ في حالة صعود وهبوط، فالحضارة الرومانية انتعشت لقرون ثم ما لبثت أن انهارت، وكذلك الحضارة الفرعونية حكمت وهيمنت لكنها اختفت تحت الرمال لقرون طويلة، وأيضاً حضارة المسلمين في القرون الوسطى كانت مصباحا مضيئاً وقنديلاً لا ينطفئ في عصور الظلام الأوروبية حيث ساد الجهل والخرافة وسطوة المؤسسة الدينية على كل مناحي الحياة.

وثمَّة عوامل لهبوط أو صعود الحضارات يُمكن استقراؤها واستنباط كنهها من دراسة التاريخ، فعوامل صعود الحضارات تتمثل في الأخذ بعوامل التَّقدم والتركيز على الأهداف والغايات دون الإغراق في تفاصيل المواقف، والابتعاد عن الصراعات، وانتعاش الثقافة- نضرب مثالاً بحركة الترجمة في العصر العباسي وازدهار العلوم بشتى أنواعها، وأيضًا الموقع الجغرافي أو ما يعرف حالياً بـ"العوامل الجيواستراتيجية"، إلى جانب نظام الحكم الداعم والمؤمن ببناء الحضارة، وديموغرافية هذه الحضارة؛ أي البنية السكانية للشعب الباني للحضارة ما إذا كان متنوعا ومتآلفا أم تضربه الصراعات والخلافات.

أما عوامل هبوط الحضارات، فيتصدرها انهيار منظومة الحكم نتيجة لغياب العدالة والمساواة وتفشي الظلم، وتفتت الدولة إلى دويلات يتنازع زعماؤها المُلك والحكم، وتفشي الأمراض والأوبئة، وتراجع أهمية الموقع الجغرافي، مثل الجفاف أو جدب الأرض وموتها وانهيار الازدهار الزراعي (مثل ما حدث مع بعض الإمبراطوريات في العراق ومصر). من أسباب انهيار الحضارات، تضخم الحضارة نفسها، بما يفوق قدرتها على السيطرة، مثل النزعة الاستعمارية، والرغبة في التوسع بأنحاء العالم، والذي يكون سببًا في الانهيار القريب، نتيجة لتركيز المنظومة الحاكمة على الاستعمار الخارجي وإهمال الداخل (الإمبراطورية البريطانية والحضارة الرومانية من بين الأمثلة)، وأيضاً الانقسام الديني وتمزق الوحدة الوطنية، وضياع الهوية وانسحاقها.

فالحضارات مهما ازدهرت تتحول يومًا إلى أطلال، وربما لا يبقى منها سوى رسوم على الجدران أو جثث الموتى المحنطة، وهناك حضارات يبقى علمها لكن الزمن يتجاوزه فلا يعد ذا قيمة تذكر!

وفي عصرنا الحالي، إذا نظرنا إلى واقع الحضارة الإنسانية، نجد أنَّها تتمركز بصورة أو أخرى في الغرب، ومن أبرز عوامل ازدهار الحضارة الغربية- والأمريكية على وجه التحديد- النمو الاقتصادي وازدهار المعيشة، فلو انهار هذا النمو لانهار المجتمع وفقد تماسكه وتراجعت إنتاجيته، وانحسر الفكر المتقدم فيه. إذ لا يُمكن تصور ازدهار حضاري بدون تقدم اقتصادي، فالنمو الاقتصادي وقود بناء الحضارات والشعلة التي تُنير طريق التقدم الحضاري والسمو المعرفي لأي أمة من الأمم، وهو البوصلة التي ترشد الحضارة نحو مسارات التقدم والرخاء.

كما إن التقدم الصناعي والاقتصادي المبالغ فيه وعدم اكتراث الإنسان بالطبيعة وإهماله للموارد ظنًا منه خطأً أنها مُستدامة، يمثل الطريق الأقصر نحو الانهيار الحضاري، فالضغوط التي تُمارسها الأنظمة الاقتصادية المُتقدمة وكلها تقريباً في الغرب الآن، تفاقم مشكلة المناخ، وقد تسببت فعليًا في أزمة الاحتباس المناخي وزيادة الغازات الدفيئة التي تزيد من درجة حرارة الأرض وتخلق مشكلة "الاحترار العالمي".

والتطرف الفكري وتراجع مستوى التسامح كذلك من عوامل انهيار الحضارات، ولذلك الصعود غير المفهوم للسياسات الشعبوية والأفكار اليمينية المتطرفة والتي أعقبت مرحلة من السياسات النيوليبرالية، كلها تمهد الطريق ببطء إلى انهيار النموذج الغربي، وإتاحة المجال أمام نموذج جديد قائم على التَّعاون والشراكة والبناء والتنمية، وصولاً إلى نهضة حقيقية ترتكز على بناء الإنسان وليس تدميره بآلات الحرب وإبادة المجتمعات بالأسلحة الفتاكة والأمراض المُميتة. وهذا النموذج الجديد يقوده باقتدار وفعالية التنين الصيني، الذي بدا للجميع في مطلع الألفية أنه نموذج آخر للنمور الآسيوية لن يلبث أن يتراجع تحت وطأة الضغوط الغربية أو عدم قدرة الأنظمة على مواصلة التقدم.. غير أنَّ الحال لم تكن كذلك، واستطاعت الصين أن تتعملق وتتحول بالمعنى الحقيقي للكلمة إلى عملاق في كل مناحي الحياة، عملاق صناعي وزراعي وطبي ومعرفي وتكنولوجي ومالي (من حيث العملة والسيولة) وعسكري كذلك، رغم أنَّ قوتها العسكرية العملاقة لم تقع حتى الآن في شرك الحروب ولم تسقط في خنادق التوترات العسكرية، فقط تحتفظ الصين بقوة عسكرية تمنحها ما يسمى بـ"توازن الرعب"، ذلك التوازن العسكري مع القوى العظمى في العالم لردع أي طرف من محاولة المساس بها أو بما حققته من منجز حضاري.

إنَّ العالم اليوم يمر بمرحلة الانتقال نحو تعدد الأقطاب، بعد أن انهار نموذج القطب الواحد الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية، وهذه العملية الانتقالية قد تستغرق وقتًا، حتى يتم التوافق مرة أخرى على تقاسم النفوذ والثروات والقوة بين القوى العظمى المتنافسة عالميًا.

ومقدمات انهيار النموذج الغربي، بدأت فعلياً مع لجوء أمريكا وأوروبا إلى إنعاش اقتصاداتهم عبر مبيعات الأسلحة، فتجارة الحرب لا تبني حضارة، ربما تحقق ازدهارا اقتصاديا يدوم لعقدين أو أكثر، لكنها في نهاية المآل تكون سبباً في الانهيار، فما دوَّنه التاريخ عن الحضارة الرومانية أنَّها كانت ماضية في طرق التقدم والنمو، لكن مع تنامي النزعة الاستعمارية والرغبة في احتلال المزيد من الأراضي، تحوَّل الأمر إلى كابوس لعين، يؤرق مضاجع الحكام الرومان الذين ضغطوا على الشعب اقتصاديًا من أجل تمويل التوسعات العسكرية، والتي أفضت إلى خسائر متتالية وتفشي عمليات النهب والسرقة في أنحاء الإمبراطورية، حتى أفل نجم الرومان بلا رجعة!

ولا شك أنَّ العولمة أو العالمية تشكل حجر أساس ازدهار الحضارات، فالنزعات القومية والشعبوية تدمر الإنسانية، فالإنسان اجتماعي بفطرته، متى ما عزلته لن يتحقق التقدم، وستتفاقم الطبقية غير المُنتجة، وسيحل الظلم محل العدل، ويسود الطمع والرغبة في الاستحواذ على حساب التشاركية والتعاون والتآخي بين النَّاس. والمُدقق في سِيَر الحضارات يجد أنَّها قامت وازدهرت بفضل أفكار الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي، فالانغلاق وبناء الجدران وسياسات الحظر كلها من عوامل الأفول والتَّراجع الحضاري..

فمثلاً الحضارة الإسلامية والعربية انتعشت في العصور الوسطى لأنها آمنت بالانفتاح على الآخر وتناقشت معه وتجول روادها في أنحاء المعمورة، فظهر ابن خلدون الذي ألّف جواهر فكرية لا تزال تُدرّس في مؤسسات التعليم إلى يومنا هذا، ولعل "مُقدمة" ابن خلدون تمثل المرجع الرائد في بلورة مفهوم الحضارة، والتي يرى في معنى من معانيها أنها بلوغ الإنسانية لذروة التطور العمراني والنهضة الثقافية والتقدم المجتمعي ومن ثم استقرار الأوضاع وتحقق الرخاء. ومن وجهة نظر ابن خلدون فإنَّ الطبيعة الجغرافية وآلية الحكم وسيادة العدل هي الأسس المتينة التي تزدهر بسببها الحضارة، فإذا ما ضاعت هذه الأسس انهارت الحضارة وتهاوت.

الحضارة الغربية كذلك انطلقت في بدايتها على هذه الأسس القويمة وأخذت بأسباب التقدم والنهضة، لكنها من المؤكد وخلال العقد الأخير بدأت مرحلة الأفول والانحدار، وكان جرس الإنذار الحقيقي لأفول هذه الحضارة إشعال الحروب العبثية في الشرق الأوسط، وتعمد عرقلة السلام في فلسطين المحتلة، واندلاع الأزمة المالية في 2008، هذه كلها كانت مُقدمات جلية لانهيار حقيقي في الحضارة الغربية، وما فاقم ذلك تأجج المشاعر القومية وصعود تيار الشعبوية، وتنامي ثقافة إقصاء الآخر ورفضه واعتباره تهديدًا خطيراً على المعيشة، ومن ثمَّ تأخذ هذه الحضارة مسارها الهابط والمنزلق نحو هوة سحيقة من التراجع لتصل في النهاية إلى نقطة الانهيار التام.

ويبقى القول إنَّ صعود وانهيار الحضارات حتمية تاريخية وسنة كونية؛ إذ إنَّ دوام الحال من المحال، فعندما تغيب شمس الغرب هناك، تسطع شمس الشرق هنا، في متوالية لا متناهية من الحراك الإنساني الحضاري.