اللغة بين السيادة والسياسة (4)

 

علي بن مسعود المعشني

 

أليس من المعيب أن نجد شرط الإلمام باللغة الإنجليزية قراءة وكتابة في صدارة شروط التعيين في أغلب الوظائف بداخل سلطنتنا الحبيبة؟! أين سيادة اللغة العربية والسيادة الوطنية؟ وأين نحن من النظام الأساسي للدولة!؟ وما فهمنا للغة العربية كلغة رسمية للدولة!؟ وأين جهود تعريب الإدارة بعد أكثر من (4) عقود من التنمية!؟ فالبنوك المحلية مثلًا والتي فاقت فيها نسب التعمين الـ95% هل ما زالت لها من ذريعة أو حُجة في أنَّ أغلب مُعاملاتها ماتزال باللغة الإنجليزية؟! أم أنها الأسطوانة المشروخة كالعادة: "عندنا وافدين ما يعرفون عربي يحليلهم"!! وهو ذات الشعار الذي ترفعه الوزارات والبنوك وشركات الاتصالات والشركات الكُبرى لتمرير انتهاكاتها للغة العربية في رسائلها النصية ومراسلاتها ومُعاملاتها، وسط سكوت مُطبق ومُعيب من الجميع حكومة ومؤسسات ونُخب وعوام.

لم أجد في حياتي دولة تشترط إجادة لغة أجنبية لأبنائها في التوظيف بداخل جغرافيتها إلا في السلطنة وأقطار الخليج. فما الحكمة يا تُرى من هذا التعجيز والتغريب المُنظمين!!

حتى في كتب الترويج السياحي والإعلامي عن السلطنة نجد عبارة : اللغة الرسمية اللغة العربية وتتبعها عبارة: ويُجيد أغلب العُمانيين الإنجليزية والأوردو والهندية والبلوشية والسواحيلية. ونحن لا نعلم هل هذا من باب التفاخر والوجاهة أم استهانة بالعربية بلا وعي؟! فمن الطبيعي أن في كل شعب هناك من يجيد لغات أخرى، ولكنها لا تُفاخر بذلك في مطبوعاتها الرسمية، بل تُجرم عليها كونه إجراء ينتهك السيادة اللغوية. وحتى نحصر كلامنا في المفيد والمثمر ونتجنب الخطاب الإنشائي، ويكون النقد بناءً نتمنى النظر في  وضع الحلول الآتية:

(1) ضرورة إنشاء هيئة وطنية تُعنى بحماية اللغة العربية -  إن لم نقل الدفاع عنها - تحمل الشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي والصلاحيات القانونية في ضبطية المخالفات اللغوية والتي لا تنسجم مع النظام الأساسي للدولة، وترصد خروقات السيادة اللغوية، وتملك القانونية الإلزامية (القضائية) بتغيير المُصطلحات والمفردات والإجراءات التي لا تخدم اللغة العربية كثابت وهوية.

يرجى منها:

أ- القيام بدور الرقيب والاستشاري اللغوي للمراسلات الرسمية والخطاب في وسائل الإعلام المحلية.

ب- رصد الخروقات وإيجاد البدائل والمُمكنات السلسة لتعريب المعاملات في القطاع الخاص بما لا يخل بالإنتاجية ويحمي السيادة اللغوية والوطنية.

ج - مساعدة المؤسسات التربوية والتعليمية (العامة والخاصة) فيما من شأنه الحفاظ على اللغة العربية وتبسيطها وتطويرها وغرس قيمها وحبها في نفوس الناشئة ومراحل التعليم.

د- التنسيق والتواصل مع الهيئات والجمعيات المثيلة في الوطن العربي لتحقيق الارتقاء في العمل والاستفادة من خبراتها التراكمية في هذا الخصوص.

(2-)منع كتابة أسماء المؤسسات الرسمية بغير اللغة العربية على مبانيها ومقتنياتها وأوراقها الرسمية.

(3) استبدال اللغة الإنجليزية على لافتات المحال التجارية والشركات بلغة الصور والرموز والتي تُعبر عن النشاط والاكتفاء بكتابة النشاط باللغة العربية. فمن المعلوم أن لغة الصور اليوم في أزهى وأرقى مستوياتها ومفهومة من قبل جميع البشر ومن مُختلف الثقافات والأجناس وبلا استثناء.

(4) الحرص على سلامة كلمات المسؤولين لغويًا بداخل السلطنة وخارجها عبر تمريرها على مصحح لغوي وتأهيل المسؤولين لذلك.

(5) يُمكن في حال توفير المناخ السوي والإمكانات للهيئة المقترحة أن تُشكل نواة حاضنة وجادة لمجمع لغة عربية ودار فاعلة للترجمة كذلك تليق بالسلطنة كأرض أنجبت الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم اللغة الجليل. وكوكبة من العُلماء والأدباء الأجلاء عبر تاريخها الطويل.

من المعيب أن نعتبر العناية باللغة العربية في السلطنة فرض كفاية يسقط عنِّا إن قام به الآخر، فهي فرض عين ديني وأخلاقي وقانوني.

لم نجد دولة واحدة مهما بلغ حجمها أو قلت فاعليتها وتراتبيتها بين الأمم، تكتب بغير لغتها وتتعامل معها، كما إن أحدنا لو عاش في فرنسا أو بريطانيا أو بلغاريا مثلاً مدة عام واحد فقط لأجاد الفرنسية أو الإنجليزية أو البلغارية بحكم السيادة اللغوية في تلك البلاد، بينما لو عاش الوافد بيننا 4 عقود لعاد بالإنجليزية أو الأوردو أو الهندية أو بعربية ما في معلوم!!

فبذريعة أن اللغة الإنجليزية لغة مال وأعمال وإدارة وتكنولوجيا، تحولت بفعل هشاشتنا من لغة علم وتواصل مع الآخرين، إلى لغة وطنية بديلة ولغة سيادة وهوية على أرض الواقع، وهنا المحذور والمرفوض والكارثي، وهذا مالم يقله أو يؤمن به الفرنسي أو الياباني أو الصيني أو الفارسي أو البلغاري أو اليوناني حينما قرروا اللحاق بركب التطور العلمي، فلغة العلم شيء ولغة السيادة شيء آخر تمامًا، ولغة السيادة مُقدمة على كل شيء، فالتعامل مع اللغات كعلوم ومعارف فرض عين على كل مُسلم ومُسلمة، أما العناية بلغة السيادة فهو فرض عين على الحكومة أولًا ثم الدولة وأطيافها ثانيًا. وهي حالة شبيهة بالخلط ما بين مفهوم التعريب والترجمة أو الاستعراب والاستشراق أو تعلم اللغات الأجنبية والترجمة.

فالتعريب هو توطين ثقافي للنص بما ينسجم مع الثقافة المترجم إليها وليس اللغة فقط. أما الترجمة فهي المعنى اللفظي للكلمة والجملة وتحويله إلى لغة أخرى كما هو، أما الاستعراب فهم المنشغلون بالثقافة والتاريخ العربيين من الأجانب، أما الاستشراق فهم المنشغلون بالحضارات والثقافات الشرقية عمومًا بما فيها العربية من الأجانب.

تعلم اللغات الأجنبية يوجد أناس يستطيعون فهم نتاج الآخر، أي ما يُسمى بتعاطي النخبة وثقافتها، أما الترجمة فتوفر النتاج الثقافي للآخر وتبسطه للجميع من نُخب وعامة، إضافة إلى حمايتها للغة الأم وسيادتها وضمان نموها وثرائها ومواكبتها للجديد من المعارف والآداب والعلوم. على اعتبار أنَّ اللغة كائن حي يكبر وينمو ويتطور بالعناية والاهتمام ويتآكل ويندثر بالهجر والتنكر والتجاهل والمُزاحمة والإحلال.

قبل اللقاء: "هل سنحسم هذا الجدل العقيم حول اللغة العربية وتمكينها كلغة علم ودين وثقافة وهوية، أم سنعول على الزمن كعادتنا في إصلاح المُعضلات ونجعل شعارنا ":من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ونكتفي بمطاردة المُذيعين للمفردات الأعجمية في أفواه المشاركين بزعم الانتصار للغة الضاد في بلد الخليل بن أحمد؟"

وبالشكر تدوم النعم..