الصراع العربي - الإسرائيلي (1-2)

 

عبيدلي العبيدلي

منذ العام 1948 -وهو ما اصطلح على تسميته بـ"عام النكبة" توصيفا لنتائج الاغتصاب الصهيوني لدولة فلسطين التي كانت حينها تحت الانتداب البريطاني، وتشتيت شعبها- والكثير من التحليلات يُكتب حول الأسباب التي أدت للنكبة، وامتلأت أرفف المكتبات لدينا بالكتب التي تصف مشهد ذلك الاغتصاب الصهيوني، وأخرى تفوقها في العدد حول التفسيرات التي أدت لتلك النهاية التي تعتبر أبشع الجرائم التي عرفها تاريخ البشرية.

لكنَّ أيًّا من تلك الكتابات لم تغيِّر الحقيقة على أرض الواقع، بل نجح الكيان الصهيوني، بما توافرت تحت يديه من إمكانات اقتصادية، وعلاقات دولية، وقوات عسكرية، من قضم المزيد من الأراضي، ليست الفلسطينية فحسب، وإنما العربية المجاورة لها أيضا. وكانت "نكسة 1967"، كما تدوِّنها كتب التاريخ العربية شاهدا على نزوع ذلك الكيان الصهيوني لابتلاع المزيد من الأراضي العربية، وبكل الطرق التي تنتهك الأعراف والقوانين الدولية من جانب، وعدم قدرة تلك البلدان على التصدي لتلك النزعة العدوانية المشوبة بجشع لا محدود في ضم المزيد من تلك الأراضي العربية لصالح ذلك الكيان. ولم تقف شهيته التوسعية العدوانية عند تلك الحدود، بل تصاعدت وازدادت اتساعا، فوجدنَاه لا يتورع عن إرسال قواته لاغتيال القيادات الفلسطينية في دول عربية مثل تونس، ويوجِّهها لتدمير المنشآت النووية في العراق. يقوم بكل تلك الجرائم تحت مبرِّر واحد؛ هو -كما لا يكف عن ترديده- "حماية إسرائيل، والدفاع عن حقها في الوجود، وضمان سلامة مواطنيها".

مُقابل ذلك، نجد المواطن العربي البسيط، ومن بين صفوفه المواطن الفلسطيني؛ سواء ذلك الذي يعيش تحت قبضة مؤسسات الكيان الصهيوني، أو ذاك الذي يعيش في الشتات، بل وحتى ذلك الموجود في أراضي السلطنة الفلسطينية، لا يكف عن ترديد السؤال المناكف لذلك التفسير الذي يروج له الكيان الصهيوني لتبرير استمرار الواقع الاستعماري البشع الذي فرضه على التاريخ العربي المعاصر؛ وهو: ما الذي بحوزة هذا الكيان، ويوفر له كل عناصر التفوق، التي أباحت له إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين أولا، والعرب ثانيا وليس أخيرا، رغم عدالة القضية الفلسطينية، ورغم اقتناع دول العالم بعدم شرعية الأسس التي بنى عليها ذلك الكيان وجوده؟!

تتفاوت التحليلات، وتختلف وراءها الاستنتاجات، وتتباين التوقعات بشأن مستقبل ذلك الكيان، لكنها جميعا لا تستطيع أن تنكر أنه لا يزال قائما، وينعم بكل الحقوق التي يبحث عنها، والتي استطاعت أن تموضعه على خارطة العالم الاقتصادية، بل وحتى السياسية.

لكنَّ ذلك ظل يشغل ذهن المواطن العربي، ويرسخ فيه ذلك السؤال الملح الذي يبحث عن جواب له: لماذا لم تنجح الثورة الفلسطينية، بل الحروب العربية-الإسرائيلية في استعادة الحق الفلسطيني أولا، وفي لجم ذلك الكيان، وشل قدرته التوسعية؟

يُمكن قول الكثير في هذا الجانب عندما يتعلق الأمر بالإمكانات التي نجحت المؤسسة الصهيونية في وضعها تحت تصرف ذلك الكيان، وأكثر منها تلك التقاطعات التي بناها، هذا الأخير، مع مصالح القوى الاستعمارية الأوروبية بداية، ثم الأمريكية في وقت لاحق. لكنها جميعا تتشابه -بشكل أو بآخر- مع تلك التي كانت بتصرف القوى الاستعمارية الأخرى، عندما نشرت قواتها خارج حدود بلدانها بحثا عن المواد الأولية التي تحتاجها مصانعها، ولا يستغني عنها اقتصادها. حينها واجهت شعوب تلك الدول المحتلة، بشكل أو بآخر، ظروفا مشابهة، بشكل أو بآخر، لتلك التي واجهت، ولا تزال تواجه، الشعب الفلسطيني، ومن خلفه الشعوب العربية في صراعها من أجل دحر القوى الأجنبية وإجبارها على الخروج من تلك البلدان التي استعمرتها. لا نذهب نحن هنا إلى القول بدرجة التطابق، فلكل قضية طبيعتها الخاصة، ولكن نشير إلى العلاقة بين مغتصب (بكسر الصاد)، ومغتصب بفتحها. ولتوضيح ما نحاول الوصول إليه من وراء هذه المقارنة، يمكن الإشارة هنا إلى الحالة "الجنوب إفريقية"، ونضال الشعب هناك تحت قيادة نلسون مانديلا.

السؤال الذي يستتبع ذلك التساؤل المشروع الذي يحتل ذهن المواطن العربي، ويفرض نفسه وبإلحاح هنا؛ هو: هل يملك الفلسطينيون -ومن ورائهم الدول العربية- برنامج تحرر وطني كامل قابلا للتطبيق، مهما بلغت التضحيات، وارتفع سعرها، ومهما طال زمن الوصول للأهداف النهائية، برنامجا قادرا على قلب الموازين من أجل عودة الحق لأصحابه.

أُدرك مسبقا أن مثل هذا السؤال يحمل في طياته الكثير من عوامل الاستفزاز التي يضعها أمامنا جميعا، لكنه سؤالٌ يستحق الإثارة، التي لا تنفي تلك التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني تحت قيادته الشرعية -مُمثلة في منظمة التحرير الفلسطيني تاريخيًّا- والسلطة الفلسطينيَّة حاليا. ولا يقلل من تلك الشبيهة لها التي قدمتها الشعوب العربية؛ سواء في تضامنها مع قضية الشعب الفلسطيني، أو، في مراحل لاحقة، لاستعادة أرضيها المحتلة.

ليس القصد من وراء إثارة مثل هذا التساؤل التشكيك في صدق نوايا الشعب الفلسطيني، ومن ورائه الجماهير العربية، ولا التقليل من التضحيات التي قدمها الاثنان، كل منهما على حدة، أو كلاهما سويًّا، ولا الطعن في نزاهة القيادة الفلسطينية، لكنَّ الهدف الحقيقي هو دعوة صادقة لمراجعة تلك البرامج، وإعادة النظر في عناصر القوة، وهي ليست بالبسيطة، التي بين يدي الإثنين، وفحص الطرق التي تم من خلالها تنفيذ تلك البرامج، وتجيير تلك العناصر لصالح القضية الفلسطينية/العربية؛ من أجل الوصول لكنس الكيان الصهيوني أولا، واستعادة الأراضي العربية المحتلة ثانيا.

الإجابة عن تلك التساؤلات العربية منها والفلسطينية على حدٍّ سواء، تتطلب إعادة المراجعة، المستقاة من التجربة الذاتية، الممسكة برحابة الصدر، والمتصفة بالحرص على نقد الذات البناء، الباحث بصدق عن مواطن الخلل في البرامج الفلسطينية/العربية من أجل التخلص منها لوضع أقدام حركة التحرر العربية/الفلسطينية على الطريق الصحيحة القادرة على إعادة الحق لأصحابه. وحدها مثل هذه البيئة، هي التي ستقودنا نحو أهدافنا المشروعة؛ وفي مقدمتها استعادة الحق الفلسطيني.