وجها لوجه: د/غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي (7)

 

عبد الرزاق الربيعي | مسقط

 

مذكّرات أميرة عربيّة ...ألم الغربة

•        على اعتبار إنك حفيدة السيدة (سالمة)، وقد ورثت منها حبّ الكتابة، والسفر، والترحال، ماذا تمثّل لك مذكراتها، وكيف تنظرين الى تجربتها في الكتابة، والحياة؟

-        أنت بالطبع تسألني عن كتاب (مذكرات أميرة عربية)، أوافقك الرأي، فهو عمل متميز، إذ سردت فيه السيدة (سالمة بنت سعيد) الأحداث، والوقائع ببراعة فائقة، وقدرة عالية، يتحدّث الكتاب عن ألم الغربة، ومعاناة الحياة فيها، ويبثّ على صفحاته الحنين الى الوطن، وشجونه. أصدقك القول، إنني أحمل للكتاب تقديرا كبيرا، فما بالك والكاتبة من وطني، فهي في نهاية المطاف كاتبة عمانية قلبا، وقالبا، وجميعنا يعرف الشحّ الذي تعاني منه كتابة المذكرات، ونشرها في العالم العربي من زمان، والأمر كذلك حتى في وقتنا الحالي، وإن اختلفت فيه أمور عدة، ومعايير مختلفة. كان يجب أن يكون الحال مختلفا بين الأمس، واليوم، كنّا سنجد بين أيدينا -نحن القراء العرب- مجموعة ضخمة من المذكرات عن حياة أناس عشقنا تجاربهم، وأعمالهم الفنية، أو غيرها من الأعمال. تجدنا متعطشين لمعرفة خلفياتهم، وبعض جوانب حياتهم كبشر، ولكن للأسف لم نرو عطشنا، فكأنّ كتابة السيرة الذاتية أمرا محرّما، ومسكوتا عنه، أو كأنه مكبّر صوت يفضح الأسرار، وينبش الأحوال المخفية.

•        وقد يكون سبب التردّد في ذلك الخشية من ردود الأفعال؟

-        بدون شك، الأمر الذي يقف حائلا في وجه كتابة المذكرات في العالم العربي يتمثل في عدم تقدير القرّاء أنفسهم للإنسان الذي يجرؤ، ويكشف أسراره الشخصية، ويبوح بأسرار من تعامل معهم في حياته من أفراد، وأسر، وأصدقاء وزملاء. ويصير الأمر على درجة عالية من الصعوبة بالنسبة للنساء العربيات، وبالأخص النساء العمانيات.

•        ويكون الأمر أكثر تعقيدا عندما تتصدّى لكتابة المذكّرات امرأة بمكانة السيدة سالمة ابنة السيد سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنجبار (1804- 1856)؟

-        علينا أن نذكر أنها كتبت هذه المذكرات منذ زمان بعيد، تحديدا في سنة 1886. لذلك، أخذت مذكرات السيدة سالمة المتلقي العربي على حين غرة، وأدهشته دهشة عظيمة. وفي ظني، لو لم تكن السيدة سالمة عمانية، وكانت من أحد البلدان العربية الأخرى كمصر، السودان، لبنان، فلسطين، أو العراق، لما كانت الدهشة عند القرّاء العرب بهذه العظمة، ولكانت الحفاوة أقل درجة. وربما اعتبرها القراء مذكرات عادية، وستمرّ مرور الكرام؛ فالبلدان العربية المذكورة كان لها تواصل مع العالم الخارجي، وكانت هناك المطامع الاستعمارية التي اخترقت حدود هذه البلدان، أعقبها قيام هذه الدول بعمليات عسكرية مناهضة للاستعمار. تلك التطورات جلبت الأنظار إليها عالميا، كما لا ننسى تجذّر ثورة تعليمية كبيرة هنالك، وكون السيدة سالمة عمانية يقودنا إلى الحديث عن قلّة ما عرف عن عمان لسنين طويلة على المستوى الإقليمي، والعالمي. فقد انضمت عمان إلى جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. ويرجع ذلك إلى اتجاهاتها السياسية، والعسكرية خارج المنطقة العربية، تحديدا تجاه افريقيا، حين استعمرت عمان جزيرة زنجبار في شرق افريقيا لسنين طويلة حتى العام 1964. بجانب هذا، دخلت عمان بعد الحرب العالمية الثانية في توتّر سياسي، وعسكري داخلي، سبّب لها عزلة تامة عن العالم لم تخرج منه إلا في العام 1970 عند استلام السلطان قابوس زمام الحكم.

•        كقارئة، ما الذي لفت نظرك في المذكّرات؟

-        هنالك دهشة ومتعة في المذكرات بسبب التفاصيل الدقيقة التي سطّرتها السيدة سالمة عن حياة القصور الغامضة، عن حياة أبيها السلطان سعيد، وأخوتها، وأخواتها، وبعد ذلك عن حياتها في الغرب. تلك المذكرات الصادقة تستمد قوتها من الشفافية، وتوصيل أحاسيس الألم، ووجع الغربة الذي عانت منه المؤلفة، فلم تكن السيدة سالمة بنتا عادية ، أو من بنات التجار الذين عرفوا باهتمامهم بتعليم بناتهم حتى في ذلك الوقت المبكّر من الزمان؛ إنها ابنة سلطان. وهنا نقول، كان التعليم يصل لبنات السلاطين، وبنات الأسر الحاكمة، ذلك ما برهنت عليه السيّدة سالمة في (مذكرات أميرة عربية)، محطمة المفهموم الخطأ الذي يشير إلى غياب التعليم عند نساء تلك الشريحة الاجتماعية.

 

•        يمكننا أن نستنتج أن تعليم المرأة كان منتشرا في ذلك الوقت؟ أم إنّه اقتصر على الأسرة الحاكمة؟

 تكشف المذكرات أن الاهتمام بتعليم البنات قد أخذ على محمل الجد في القصور الملكية، وإلا ما كانت السيدة سالمة في وضع يمكّنها من كتابة مذكراتها بهذا الأسلوب المبدع الرائع، ومن أهم ما تقف عليه هذه المذكرات هو دحض الفكرة السائدة عن تعليم النساء العربيات عموما، وفي منطقة الخليج العربي خصوصا. وهي ردّ على الذين يتكلّمون عن الحرمان من التعليم ومن القراءة والكتابة، فها نحن نرى أميرة عربية تثبت عدم صحة هذه الفكرة بالدليل القاطع، أو كما يقولون بيان بالعمل، فقد اهتمت الأسر العربية قديما بتعليم الاناث، ولم يكن التعليم حكرا للذكور، وحصريا عليهم. وما سرّ الاهتمام بهذا الكتاب؟

-        في ظنّي لم يظهر حتى يومنا كتاب يكشف الجوانب الخفية في حياة الناس في عمان وزنجبار في تلك الحقبة من التاريخ. الكتاب سبق يخصّ السيدة سالمة، وماركة مسجلة باسمها هي لا سواها. كثيرون وصفوا الكتاب بأنه أغرب من الخيال، ولهم الحق في ذلك، فهو ليس بقصّة، أو رواية، بل هو سرد عن واقع حياة المؤلّفة، وتجربتها.

في (مذكرات أميرة عربية) روت السيدة سالمة شطرين من حياتها لكل شطر ظروفه الخاصة من حيث الزمان، والمكان، والمتغيرات. الشطر الأول تناول حياتها في زنجبار، وعيشها في القصر بين أفراد أسرتها، تركيبة تلك الحياة بحلوها، ومرها، التآمر بين نساء السلطان سعيد اللواتي كنّ يتصارعن بين بعضهنّ البعض للاستحواذ على قلب السلطان، ولدفع أبنائهنّ، وبناتهن إلى الأولويّة، والصدارة داخل بيئة محصورة، ومحددة المعالم. أما الشطر الثاني، فنجده عن حياتها في ألمانيا التي وصلتها كعروس، وزوجة لتاجر الماني توفى بعد ثلاث سنوات من الزواج، جاءت من الشرق الأوسط، وعاشت في مجتمع غريب عنها.

ويتجلّى الكتاب حينما يمزج بين صدق الكاتبة في التعبير عن حياتها، ومشاعرها، وبين الفرصة التي أتيحت لها كأميرة عاشت في قصر الحكم، وموطن السلطة، والثروة. السلطان سعيد كان من أهمّ السلاطين العرب، والسلاطين الذين حكموا عمان، وجدناه محبوبا من شعبه لورعه، وحبه للخير، والنماء، والتطور. وقد تواصل سعيه لجعل بلده دولة يعترف العالم بقوّتها، ونفوذها، لها القدرة على نشر الاسلام في كل جزء وصل اليه نفوذها.

كما يتجلى الكتاب حينما يسرد الحياة في ألمانيا، أو البيئة الجديدة بتناقضاتها، وغرابتها من عدة جوانب عاشتها الكاتبة نفسها. وصلتها، وهي غريبة لا تجيد التحدث باللغة الالمانية، وجدت حياة اجتماعية مختلفة تماما عن حياتها الاصلية. ولذلك، انتقدت كثيرا من العادات الالمانية الغريبة، وقارنتها بالعادات العربية التي عاشتها في زنجبار. عرفت إن الالمان ينتقدون الرجل العربي الذي لا يدع زوجته تخرج من البيت، ويظنون أنه يفرض عليها نوعا من الحصار وتقييد الحرية. انبرت السيدة سالمة للدفاع، وقالت إنهم لا يعرفون أن موقف الرجل العربي هذا ينمّ عن احترامه لزوجته، فهو يجنّبها العناء، ويكلّف نفسه القيام بمثل هذه المهام.

كما يقف الكتاب على رصد دقيق لعذاب الغربة كما عانت منهما السيدة سالمة في المانيا، وحنينها لوطنها وللعالم الشرقي؛ حالة لازمتها حتى وفاتها، ونحن في هذا العصر نجد شعوب العالم العربي، وفي بقع كثيرة من العالم، يعانون الشتات، والغربة، بسبب الحروب، والتقلبات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية. لم يجدوا أمامهم وسيلة تخرجهم من جحيم عدم الاستقرار، والحاجة، والعوز غير الهجرة الى بلدان أخرى، تنقلهم إلى أوروبا زوارق الموت، والهلاك. وإن تسنّت لهم فرصة النجاة، واللجوء تجدهم يتجرعون عذاب الغربة، ومرارتها، وتجدهم يحنّون إلى الوطن، والأهل، والعشيرة. من يعش في الغربة في وقتنا الحالي يجد صدى لكل الذي سردته السيدة سالمة في مذكراتها من معاناة، وشوق، وحنين، وشجن، ولوعة ووله للوطن البعيد، وبجانب هذا كله، تجدنا نعيد اكتشاف العيش في بيئة غريبة. وكما يقول المثل العربي (ما أشبه الليلة بالبارحة)، أو مثل آخر يقول (كأننا يا بدر لا رحنا، ولا جئنا).

 

 

تعليق عبر الفيس بوك