ولكن من يقرأ الأبحاث؟! (2)

غسان الشهابي

انتهَى المقال السابق إلى أنَّ المراكز البحثية في الوطن العربي لا تُعاني القلة وحسب، لكنها -في معظمها للأسف- تفتقد الجدية، والاستقلالية عن مراكز صنع القرار، وإذا استقلت فإنها تفتقر إلى الحرية وهي واحدة من الركائز الأساسية في البحث العلمي، وإلا جاءت الأبحاث شوهاء بكماء، لا تقول ولا تؤشر إلى مواطن الخلل الحقيقية؛ وبالتالي لا توصف العلاج.

هذا عن المنتجين، ولكن ماذا عن المستهلكين، أعني: الجهات التي يُفترض أن تقرأ الأبحاث وتنتفع بها، خصوصاً وأنَّ الكثير من الجهات الرسمية، من أنظمة حُكم وحكومات ومؤسسات، تسعى لمراكز الأبحاث والدراسات وبيوت الخبرة الخارجية، طلباً للدراسات العلمية المتسمة بالتجرُّد حتى تنتفع بها. فكما لا تدرس النُّخب في مدارس وجامعات بلدانها، ولا تتعالج في مستشفيات بلدانها، ولا "تسيح" في بلدانها؛ فإنها -أيضاً- لا تطلب المشورة والدراسات من مراكز أبحاث بلدانها؛ إما لعدم الثقة في كفاءتها، وإما لـ"عقدة الأجنبي"، وإما طلباً لـ"الستر" من أكثر الأنظمة فضحاً، فلا شيء يبقى سرًّا إلى الأبد في مجتمعات متحررة من القيود، و"المجالس أسرار" أو "المجالس أمانات"، أو ما شئتم من مقولات تدفن بموتها الكثير من الخفايا.

في الدراسات المستوردة، يجري دفع المبالغ الطائلة، وهي تخرج حلوة باردة من أكباد دافعيها لأنها ستعود إليهم بما ينفع من الرأي السديد، وتتمتع بعض هذه الجهات بالصدق والعمل البحثي السليم، وتأتي المخرجات سليمة بسلامة المدخلات، ويتم الاستلام والتسليم، وينتهي الأمر عند هذا الحد!

فلو تجري الاستفادة من كل الأبحاث التي كتبت عن المنطقة العربية من الداخل والخارج، الأبحاث العلمية التي يكتبها أصحابها من تلقائهم، أو تلك التي تكتب سرًّا لإصلاح الأوضاع في استشارات أجنبية خاصة، فهل سينتهي الحال بنا عند هذا الحد؟ هل سيسود الاضطراب كل هذه الدول العربية؟ هل سيكون رابط "الدولة الفاشلة" هو أكثر الروابط التي تجمع الدول العربية؟ هل ستتردَّى الأوضاع الاقتصادية إلى هذا الحد؟ هل ستتعفَّن الأنظمة وهي ترفض الأخذ بالتوصيات لأن ذلك في غير مصلحة بقائها؟ هل ستتخوف رؤوس الأهرام من قواعدها ويكون همّها تعظيم موازنات أجهزة التنصت للكشف عن من يتحدث بسوء عنها، بينما الأجدى استثمار ذلك في تنمية الإنسان؟

لو كانت الأنظمة العربية تقرأ لما كان هذا حال دولها... لو كانت تُطبِّق ما تقرأ لما كان هذا موقعها بين الأمم.