"روحا من أمرنا" القرآن والحياة

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

هذا الكيان المؤتلف من الجسد والعقل والقلب هو محض جماد وبعض تراب بدون هذه النفخة الروحية ، تلك التي تخالط عالم الطين فتعرج به هذا العروج الملائكي وتدب في أوصاله الحياة والحركة ، ويتيه الطين بها شرقا وغربا يعربد ويختال على المخلوقات بما رزق من خصوصية المنح و اصطفائية العقل والقلب والنفس التي تغذيها هذه الروح ثم تظل تسمو بها طالما ظلت مغذاة  بهذا المدد الإلهي الرباني النوراني ، ويصير جسد الطين الوضيع سيدا على الكائنات والكون مسخر له طيعا بين يديه آمرا ناهيا فيه، يطوف بين أرجائه وجهاته.. ما من خلقة إلا وأسلمت له قيادها مأمورة من باريها إلا ما شاء ألا يكون له عليه سلطان، يرنو له النجم وتضيء له الشمس وينير له القمر، ويجوب عباب البحر ويمور مع النجم في الفضاء ، ويطوف مع الطير مسبحا ، ويخضر له وجه الأرض وتنبت له من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وتروض له وحوش البر منكسرة طائعة ، وتذعن تحت إمرته فجاج الأرض ودروبها شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها ، ويبلغ بصر علمه آفاق الفضاء وتحلق روحه في بحار الملكوت ، ويسخر له الجن والطير والوحش ..

فهو السيد وهو المكرم وهو المفضل على سائر الخلق تفضيلا ، كل هذا من أثر هذه النفخة التي لا يعرف كنهها لا حجما ولا وزنا ولا لونا ، كل أمرها غيب وهي أقرب ما يكون إليه ، تسكن في جنبيه ويسري دبيبها في أوصاله فلا يحس به ، كل ما يعلم عنها أن:"الروح من أمر ربي"؛ فالروح حياة البدن، والبدن لا يقوم  بغير غذاء ونماء وطاقة ، وكذلك الروح لا تحيا من غير مدد ولا تشف ولا تسمو إلا به ، فكلما زاد غذاء البدن نما وقوي، وكلما زاد غذاء الروح شفت ورقت وسمت ، وكلما قل غذاء البدن ضعف وهزل ، وكلما قل مداد الروح غلب عنصر الطين فالتصق بالأرض ، وتوارت معه مسحة النور الإلهي المقذوف في هذا البناء فصار سمعه لا يسمع وبصره لا يبصر وقلبه غلف "كلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) " .

ولكن أي غذاء ومداد لهذه الروح إلا هذا "الروح" العلوي الإلهي الذي اشتق اسمها من اسمه واسمه من اسمها ، فتوافقا اسما ومصدرا وتنزيلا وتفاعلا، فكانت هي من " الروح أمر ربي" ، وكان هو " روحا من أمرنا " .. هذا المداد العلوي الذي أنزل من منزل الروح وقد جاء لها حارسا وحافظا ومنهجا ونورا، " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)"(الشورى) ، " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)"(المائدة)،

فصنوف الناس في الاستقبال عن الله إما معرض وإما مقبل ، وقد جعل الله الأرواح في الأبدان وأنزل لها هذا الذكر ليظل هذا الحبل موصولا بالملأ الأعلى لا يفارقه مدده ، فمن أقبل على التنزيل بقلبه فغشي روحه وانفعلت به نفسه ، فامتثل الأمر واجتنب النهي ولزم جناب الحق ، ووقف عند حدوده فقد أقبل الله عليه وزاده بسطة في الروح وطاب له العيش وحل له متاع الدنيا ودنا له قطاف الآخرة  " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)"(النحل).

هذا الروح العلوي الذي أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن لم يكن يعلم عن الإيمان ولا الكتاب شيئا " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)" (العنكبوت)، فجاء هذا الوحي ليأخذ بيد البشرية من درك الجهل والكفر ليرقى بها إلى درجات العلم والنور والإيمان ، أما حين ترتد النفس إلى بقاع الشهوات ويرين عليها ران الهوى فإنها تأخذ معها الجوارح مرتدة معها عن الفطرة القويمة فيغشى على السمع والبصر والفؤاد وتكون كما يحكي عنها القرآن "ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)"(الأعراف).

 وكما أن الوحي هو غذاء الروح ونماءها ومن ثم فإن الجوارح تبع لها ، فإنه أيضا الشفاء والرحمة حين يغشي الروح ما يغشيها من أدران الشهوات وقد أحاطت بها من كل جهة ، وأقبلت عليها بخيلها ورجلها، واستعان بها الشيطان عليها ليغويها وقد تقع في الغواية ، وقد تزل أو تزيغ.. فإن أرادت عودة وشفاء وعصمة فلا يكون ذلك أيضا إلا من نفس الطريق الذي نزلت منه وبنفس المدد " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)"(يونس)، "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)"(فصلت)، فإذا كان شفاء البدن من السقم هو الطب والدواء ، فإن شفاء الروح حال الإعراض والصد هو القرآن وتلاوته ومتابعته وموالاته ، والعمل بمقتضاه وإقامة حروفه وحدوده..

كما أنه الفرقان الذي جعله الله بين الحق والباطل ، فما من قلب مؤمن متصل بالقرآن إلا ويجعل الله له بصيرة يهتدي بها نوعين من الهدى ، فالهدى الأول للقرآن هو هدي الدلالة الذي يرشده الله به إلى طريق الحق ويميزه به عن طريق الباطل، وأما الهدى الآخر فهو هدي المنهج والشرع الذي يحفظ عليه أمره وحياته وبدنه وروحه ودنياه وأخراه أن يزل بعد ذلك أو يضل، فهو بينات من الهدى والفرقان وهو عصمة من الزيغ والضلال "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)"(البقرة) .

ثم إن الله قد جعل له مواسم وأوراد وأذكار تربط الإنسان به فيحفظ الذكر ويطالعه ويحفظه الذكر ويحدوه حتى يكرمه في الدنيا بعيشة "طيبة" ، وبعدا عن الشقاوة والضلال" قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)"(طه)، يكون حليفه ونصيره وشفيعه في الآخرة ، وأنيسا له في القبر ونورا له على الصراط ، وراقيا له في الدرجات .

"حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقَدَّمُهُمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ "، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ، مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: " كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ، بَيْنَهُمَا شَرْقٌ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ" ..

"حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» . قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: " تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ [ص:42]، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا " مسند الإمام أحمد.

هذا الروح الذي جعله الله غذاء للروح ورواحا وشفاء للبدن ، وحفاظا للعقل وعصمة له من الجهل والخرف  ، وهداية للنفس من الغواية .. يؤنس صاحبه في القبر ويوفي له بالعهد حين يفارق كل خليل خليله وصاحب صاحبه ، ثم يقف له عند تطاير الصحف وفي الميزان وعلى الصراط حتى يسلمه إلى جنات النعيم ، ثم يرقي بتلاوته في الجنة حتى يصل إلى ما يشاء الله له أن يرقى ، فما لنا عن ذكره غافلين ، نتخذه وراءنا ظهريا "فما لهم عن التذكرة معرضين " ..

 

 

تعليق عبر الفيس بوك