المدن الذكية 2 – 2

 

عبيدلي العبيدلي

 

وحالها حال أية ظاهرة جديدة يولدها التطور الذي يشهده المجتمع الإنساني أثارت، وما تزال المدن الذكية تثير مجموعة من متباينة من الآراء، والحوارات، التي يمكن سرد الأهم بينها في النقاط التالية:

  • المؤيد بالمطلق، الذي يرى في زحف المدن الذكية استجابة طبيعية لمجموعة من العوامل التي طرأت على الزواج الطبيعي بين: التحضر السكاني من جهة، وثورة الاتصالات والمعلومات من جهة ثانية. فمحصلة تفاعل هذين  العاملين، وبشكل إيجابي، كانت بحث الإنسان عن مدن يقطنها تتوفر فيها مزايا تلك الثورة من جانب، وتقلص من إفرازات الزحف السكاني على المدن الكبرى من جانب آخر. ويسرد هؤلاء الفوائد التي ينعم بها سكان تلك المدن، التي تصحبها المدن الذكية معها، وهي فوائد، كما جاء في مقالة نشرها الكاتب حزام الحميد، حملت عنوان "كيف تُغيّر المدن الذكيّة حياتنا للأفضل"، تبدأ بالنواحي الاقتصادية والخدمات، وتعرج على صيانة البيئة، قبل أن تحط رحالها عند التحولات الاجتماعية الإيجابية التي يحملها معه التحول التدريجي من المدن التقليدية نحو المدن الذكية.
  • المناهض بالمطلق، وهو الذي يتبناه أولئك الذين يحذرون من سلبيات ذلك التحول، والذين يبرزون، على نحو صارخ، بعض السلوكيات التي تبدو سلبية والتي جلبتها التكنولوجيا المصاحبة لتشييد المدن الذكية، ومن أبرزها، ما يعتبره هؤلاء إدمانا على استخدام الآلات الذكية، وفي مقدمتها الهواتف الذكية. ويحذر هؤلاء في سعيهم لمحاربة الانتقال من المدن التقليدية نحو المدن الذكية، من احتمالات سيطرة الآلة على سلوك قاطني تلك المدن، وخاصة في المراحل المتأخرة من تشييدها، وتحول الإنسان فيها إلى ما يطلقون عليه "العبد الذليل"، دون أن يشعر هو بذلك، للآلة بدلاً من اقتصار دوره على مستخدم لها. ويمضي المناهضون للتحول نحو المدن الذكية في التحذير من تنامي اعتماد الإنسان على الخدمات "المؤتمتة" التي تفتقد، كما يصف هؤلاء "السمة الإنسانية" من العلاقات البشرية التي سيفرزها ذلك التحول. ويلجأ هؤلاء، أيضًا، إلى التخويف من الكلفة الباهظة التي يتطلبها تشييد مثل تلك المدن، متناسين التوفير الاقتصادي الذي تصحبه معها متجاوزين تلك الدراسات التي تثبت أرقامها التوفير الاقتصادي الذي يفرزه الانتقال من المدن التقليدية نحو المدن الذكية، وهو ما تنوه له الكاتبة نور علوان حيث نجدها تقول "ساعدت عدادات المياه الذكية مدينة برشلونة على توفير 58 مليون دولار سنويًا، إضافة إلى كوريا الجنوبية التي انخفضت تكاليف بناء المباني فيها بنسبة 30% بعد إدخال التكنولوجيا في البنية التحتية".
  • المتزن المعتدل، القادر على رؤية التقدم التقني الذي تشهده المجتمعات البشرية، والذي لم يعد في الإمكان، بل وليس من المبرر، إيقافه، أو حتى مجرد التفكير في اللجوء له، ومن ثم فهم من دعاة الاستفادة القصوى من هذا المد للآلة من خلال تشذيبه لضمان أعلى نسبة ممكنة من إيجابياته، وأدنى نسبة محتملة من سلبياته. ربما يبدو اتقان العمل بهذه المعادلة أمر صعب، لكن صعوبته محصورة في الجيل الأول من سكنة المدن الذكية، وليس الأجيال اللاحقة التي سوف تتمكن من ترويض التكنولوجيا، وحسن استخدامها إن جاز لنا القول، وتأهيل الإنسان كي يتسنى له تحقيق الفائدة القصوى من وراء ذلك الترويض. ولربما يجدر بنا هنا التوقف عند بعض الدراسات التي نجحت في الوصول إلى وصف دقيق لهذه الدعوة التي يبشر بها مثل هذا الموقف "المتزن المعتدل"، والتي تصف ما باتت عليه الحياة في تلك المدن، كما نشر موقع "https://logintechs.com/2019/01/03/best-smart-city/"، أحد نماذجها قائلا "نموذج لا مثيل له في تكنولوجيا المدن الذكية، تحرز سنغافورة المركز الأول وفق قطاعات التقرير الأربعة: النقل والصحة والسلامة والإنتاجية. تعتمد المدينة الآن على تكنولوجيا إنترنت الأشياء كحل للمشاكل على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع وكمحسن للحياة في بنيتها التحتية – وبتوجيه من الحكومة الذكية ومكتب الحكومة الرقمية (SNDGO)، عالجت سنغافورة تحديات المرور الكبيرة لديها من خلال حلول النقل المتصلة. وأدى نظام النقل الذكي (ITS) إلى ظهور نظام رائد للتسعير الإلكتروني للطرق، حيث يرتفع عدد الطرق المفتوحة مع زيادة حركة المرور، كما تسمح أنظمة النقل الذكية (ITS) بتقديم معلومات عن حركة المرور في الزمن الحقيقي من خلال سيارات الأجرة المزودة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، كما أنها تجعل حافلات النقل العام أكثر دقة. وفي الوقت نفسه، يمكن للمواطنين التحقق من التقدم في سنغافورة والتقنيات المتاحة في  بعض المناطق والتفاعل مع الوكالات الحكومية الذكية من خلال Smart Nation Singapore".

الأمر الذي يفرض نفسه هنا، وفي هذه المرحلة المبكرة من حياة تشييد المدن الذكية، هي مجموعة من التساؤلات التي باتت تثيرها ظاهرة التحول نحو المدن الذكية، التي يُمكن سردها على النحو التالي:

  1. ما هي الضمانات الملموسة التي ستحقق التحول التدريجي الانسيابي، غير المبتور،  من المدن التقليدية نحو المدن الذكية، مع تخفيف الضرائب السلبية المُحتملة لهذا التحول؟
  2. ما هي الصيغ المعدة التي ستحتضن التشريعات والقوانين التي ستتطلبها مكونات المدن الحديثة، والتي ستنظم العلاقات بين قاطنيها، بما فيها تلك السلوكيات التي ستُصاحب الاعتماد على الآلة، أو بالأحرى الإنسان الآلي (الروبوت)؟
  3. كيف يمكن تحقيق الموازنة السليمة بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، التي ستفرض نفسها، حتى في المراحل المبكرة من تشييد المدن الذكية، والانتقال للإقامة فيها؟

ما يجدر قوله هنا هو أن المدن الذكية قادمة، ولا يمكن وقف زحفها. بل ليس المطلوب مواجهة مثل هذا التحول، بقدر ما أصبح من الضرورة بمكان الاعتماد على سياسات تقليص السلبيات، ورفع حضور الإيجابيات. وفي الكتاب، المكون من جزءين، "المدن الذكية في ظل التغيرات الراهنة واقع وآفاق" الصادر عن "المركز الديمقراطي العربي" في برلين بالتعاون مع "مخبر اللغة العربية وآدابها (جامعة بليدة 02 - الجزائر) في العام 2018، مادة غنية ومفيدة لمن يُريد أن يطلع على طبيعة المدن الذكية، ومكوناتها، والإفرازات المجتمعية التي سوف تفرزها، والعقبات التي ما تزال تقف في طريق انتشارها.

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك