تعزيزُ الهُوياتِ بالأفعالِ لا الأقوال

 

د. صالح الفهدي

ما الأُممُ بغيرِ الهُويات إلاَّ شتات لا يجمعهُ كيان، فالهُوياتُ هي الرُّوحُ الأصيلةُ لكلِّ أُمَّة؛ بها تبقى تاريخاً، وتستمرُّ حضارةً. الهُويات هي رافدُ السِّمات التي تتميَّزُ بها الأُمَّةُ عن غيرها في أعرافها وتقاليدها وخصائصها، وفضائلها، بل وفي نظرتها للوجود، وتصوراتها للحياةِ، وأخلاقياتها مع البشر.

ولم تكن الأُمم مُهدَّدةً في هُوياتها بأعظمِ مما هي عليه اليوم؛ نظراً للمؤثرات التي تتقصَّدُ النَّيل منها بشتى الطرق والوسائلِ؛ هادفةً إلى تذويبها، وتشتيتها، وإعادة صياغتها بحسبِ مصالحِ المؤثِّر الأقوى. فإن رزئت الأمَّةُ في هويتها الجامعة، فقد رزئت في مصيرها الوجودي، وحُكم عليها بالخروجِ من دائرةِ التاريخ بصورةٍ نهائية، فما تعودُ إلى أن يأتي من أجيالها من يُعيدونها إلى الحياةِ مرَّةً أُخرى، مجدِّدينَ عهدها لأنهم وجدوا أنفسهم في شتاتٍ من الأمرِ ذاتاً، وتاريخاً، أو أن تذوي دون رجعة.

لقد وَعَت أُممٌ بمصائر الهُويات، وأدركت أن وجودها مرتبطٌ بها، وليس بقوِّةِ اقتصادها، ولا بعظمةِ عدَّتها العسكرية! فعمدت إلى الإِسراعِ في تعزيزِ هويتها وإعادة تصويب الأُمةِ إلى ينبوعها الأصيل، وأضربُ مثلاً باليابان في هذا المسعى إذ إن هذا البلد العظيم في قوةٍ اقتصاده، وفي انضباطه، ورؤيته الحضارية التي تتسمُ بالهدوءِ، والعمل الجاد، لم ينسَ أن وجودهُ قائمٌ على هُويته الأصيلة، وحينَ رأى تأثر الأخلاقيات اليابانية بالثقافة الغربية، بادر إلى تعزيز هويته بتطبيق مادة (الأخلاق) في المدارس، مستمداً من فترة إيدو (1603-1868 م) القيم العُليا التي تأسسَّت عليها هوية المجتمع الياباني.

ووفقاً لهذا التَّوجه، فقد تضمَّن التقرير الذي وافق عليه المجلس المركزي للتربية، وهو مجلس استشاري لوزارة التربية اليابانية الدعوة إلى تربية التلاميذ على تنمية القدرة لمواجهة القيم "المختلفة وأحياناً المُتقابلة" من أجل "التفكير بطريقة مستقلة وللانخراط في الحوار والتعاون مع الآخرين من أجل تحسين حياة الأفراد والمجتمع" الأمر الذي يعني تحصين العقول ضد الاستلاب الذي يتقصَّدُ تذويب الهُوية اليابانية لصالح ثقافات السوق الاستهلاكية التي تسوِّق لها العولمة.

أمَّا استعادة الهوية الوطنية والقومية للأُمة فأضربُ له مثلاً بجمهورية تركيا ونظام حكمها الإسلامي، الذي وجد أن الهوية التركية قد شوَّهتها العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك(1881-1938)، ففقد الأتراكُ جوهرهم الأصيل إثرَ انصرامِ علاقتهم مع هويتهم التاريخية.

واستمرَّ تشويه الثقافة العثمانية حتى في عهد نظامها الإسلامي بتصوير بعض الرموز العظيمة من سلاطينها بما يشوِّهُ سمعتهم التاريخية ما يعني تشويه الهويَّة التاريخية للشعب التركي، بإثارة السخط على حكَّامه التاريخيين، ومن أمثال ذلك مسلسل "حريم السلطان" الذي "يقدم صورة متخيلة عن حياة السلطان العثماني سليمان القانوني ونزواته مسلطاً الدور أكثر على حياته الخاصة، وهو ما أثار لغطاً كبيرًا في تركيا بلغ حد المطالبة بتوقيفه من قبل البرلمان التركي كون الدولة الإسلامية بلغت في عهده أقصى اتساع لها حتى أصبحت أقوى دولة في العالم وهو ما تجاهله المسلسل"[1].

سعى الحزبُ الإسلامي الحاكم في تركيا إلى استعادة الهُوية المختطفةِ من قِبل العلمانيين بعملين فنيَّينِ ضخمين في الإنتاج هدَفا إلى افتخار الشعب التركي بقوميته وهويته، وكذلك إلى تأكيد انتمائه الإسلامي، أما العمل الفني فهو مسلسل (قيامة أرطغرل) حيثُ قامت في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، ما بين حلب وأنطاكية، والقائدُ أرطغرل (1191م/1281م) والد عثمان الأول، أول سلاطين الدولة العثمانية، الذي سُميت الدولة العثمانية على اسمه لاحقًا، وقائد قبيلة كاي من أتراك الأوغوز، وهو الذي مهد لقيام الإمبراطورية العثمانية.

وفي هذا تعبِّرُ الكاتبة سمية حساني الجزائرية فتقول:"هو ليس اندفاعًا منّا لمشاهدة مسلسل يحوي قصة وحكاية، نُحرِّك بها عقارب الساعة لتمضي كيفما كانت، وننتهي. وليس مجرد حكاية كُتبت وعُرضت على شاشة ما لنتابعها وكفى، وليس مجرد سرد تاريخي عن شخصية أو لأحداث تاريخية تُرجمت إلى عمل تلفزيوني لأجل غرض ما، بل هو الشوق الذي ملأ  القلب، لأن نكون، لأن نسترد بعضًا منِّا وماضينا، وآثارًا خالدةً لا تُمحى. ذاك الشوق الذي يجعلنا نَحِنُّ لعدل عُمر، ونبحث عنه؛ فنتعلق بمن نرى فيه انعكاس بعضَ صُورته، ذات الشوق الذي يجعلنا نحنُّ لقوة خالد، لحياء عثمان، لصدق أبي بكر. إنَّ القلبُ منا ليبكي الشَّام، ويرثي الأندلُس، ويُنادي القُدس، القدس. وآنَ الأوان له أنْ يَئن، فلا تلُم فؤادًا امتشق الدمع وكافح الألم".(انتهى).

أما العمل الفني الآخر فهو مُسلسل السلطان عبد الحميد الثاني حيث "يؤرخ المسلسل الفترة التاريخية من سنة  1896 وحتى 1909 حيث يوثق تطور الأحداث داخل الدولة العثمانية خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني في آخر ثلاثة عشر عاماً من حكمه حيث يتطرق المسلسل لمرحلة هبوط الدولة العثمانية ثم معاودة صعودها بعد الإنجازات الضخمة التي حققها السلطان في مختلف المجالات من بينها المجال العسكري والصحي والتعليمي"[2].

ضربتُ أمثلةً بهذه الأعمال الفنية لأبيِّنَ أثرَ هذه الأعمال المتابعة بشغف منقطع النظير ليس من قِبل أهلها وإنما من قِبل شعوب مختلفة في العالم، مما يعني إعادة الهُوية الأصيلة لذاكرة العالم الذي لا يعرف عنها شيئاً، ومن هنا تكون ذات تأثيرٍ عليه، حتى أن رئيس فنزويلا مادورو قال بعد أن زار موقع تصوير مسلسل أرطغرل: "هذا المسلسل يعلم الإسلام الحقيقي"، مضيفًا: "ربما سأصبح يوماً ما مسلمًا من خلال هذه السلسلة".

ما أريدُ قوله إن تعزيز أيَّةِ أمَّةٍ لهُويتها لا يكون بالأقوال والشعارات وإنَّما بالأفعال التي لا تدِّخرُ جهداً ولا مالاً من أجلِ الحفاظ على هويتها التي هي كيانها، ووجودها، فإن أدركت الأمة هذه الحقيقة استمرَّت في عطائها الحضاري، وإن هي تعالت واستنكفت كتبت على نفسها الضمور والتلاشي والاضمحلال، وحينها لا تلوم إلاَّ نفسها.

 

 

[1] - مسلسل حريم السلطان (ويكيبيديا).

[2] - https://www.nmisr.com/