التجنِّي على الثوابت!

 

د. صالح الفهدي

وقعتْ في يدي كُتب ممهورة باسم مؤلفها، مُقدَّماً بـ"الباحث الدكتور"، وفي غلافها قائمة بالكتبِ الصادرة، وقائمة أطول منها بالكتب التي يجري تأليفها، أو التي تم تأجير (عاملين) للقيام بتأليفها؛ فوقفت مصعوقاً، مترحِّماً على العلم الذي لم يسلم من جناية الرَّجل على العلم، ولسان حالي يقول: "حتى العلم لم يسلم من جنايتك"!!

رجل أسَّس حياته على الغشّ والتدليس، والانتهازية، والتحايل في شتى أموره التجارية والاجتماعية، يعاني من عقدة نقصٍ لم يجد سوى "دكاكين الشهادات" في دولٍ عربيَّةٍ معروفة، تقيم له اعوجاجه، وتصلح له ما فسدَ من خبث نفسه بثمنٍ بخسٍ ينال به مرتبةً اجتماعية طالما حلم بها ليسترَ بها سَوءةَ ماضيه، وفسادَ أفعاله في حاضره، وليظهر أمام الناس وهو يرتدي جلبابَ العلم الذي لا يرتديه في الأصل إلَّا كل نبيل غاية، وعليِّ همَّة، أما هو وأمثاله، فإن ذلك الجلباب هو أشبه بثوبٍ تفوح منه رائحة نتنةٍ، عفنةٍ وإن ظهر برَّاقاً، زاهياً!!

هذا الرجل وأشباهه قد تجنُّوا على العلم جنايةً ليس أعظم منها جنايةً، لأنَّهم انتهكوا المقدَّس بفعلهم الخسيس ذاك من أجل وجاهة لقبٍ يرقّع فيهم مكاناً لا يمكن ترقيعه بلقب لأنَّه موضع الشرف، وموطن الكرامة، وهذا لا يغطَّى بألقابٍ مزيَّفةٍ، ووجاهات مصطنعةٍ، وإنَّما بالجهد المستحق، والهمَّة المثابة.

ألقاب تباع على الأرصفة، وأبحاث تستأجر من دكاكين الفاسدين، وشهادات تمنح من كليَّاتٍ، وجامعات وضيعة همّها المال، والزبائن زرافاتٍ وأفراداً لم يوفّروا حياءً، ولم يوقّروا شرفاً، وإنَّما اعتمدوا على أُجَرَاء يبنون لهم سمعتهم كما يبني المقاول بيتاً من البيوت!

لقد نكبت أوطاننا بهؤلاء الأشباه الذين جعلوا من العلم مُتكئاً لهم في الوصول إلى غايات المناصب، أو الوجاهات الاجتماعية دون وجه حق؛ لا من أدب ولا من علم، استحلوا الحرامَ لينصبوا من أنفسهم قضاةً عليه فيما بعد، وليكونوا هم بناةً لمجتمع لا يلبث أن يفسد بفسادهم، ويعطن بعطنهم.

لا يكفي أننا منكوبون بظهور طائفة ممن يطلق عليهم بالمشاهير من جهلة وجاهلات، أصبحت لهم باقات عروض مالية من جراء شهرة زائفة، تافهة، حقيرة، حتى أصبح المجتمع ملهوفاً وراءهم، يرتجي منهم نيل البركةَ في أعماله التجارية، أو مبادراته الاجتماعية، جعلهم بذلك أُوْلِي قامات طوال، في المجتمع يطيل قامةَ الأقزام، ويقصر هامة الأعلام!

وفي المقابل، لا تكاد المؤسسات المعنية تفعل شيئاً من إصلاح جذري لهذا التجني الشامل على المجتمع في مقدراته العلمية والاجتماعية لا على صعيد تعزيز القيم، ولا محاربة الظواهر التي تنخر أساسته وتقوض أركانه.

ظواهرَ أصابتْ المجتمع في مَقتل؛ لأنَّها رفعت الوضيع إلى مرتبة الوجيه، وبوأت الزائفَ مقام الأصيل، فانظروا ستجدوا أمثلةً كثيرةً تحيط بكم، وتتبَّعوا ماضيهم فسوف تقودكم الخيوط إلى مواضع صنعوا فيها ذواتهم بالتدليس والاحتيال والتزييف؛ من أجل أن ينالوا وجاهةً اجتماعية، أو منصباً في مجلس أو وزارة، وهذا ما تحقق لهم لسبب أو لآخر، فعطلوا حراك المجتمع لجهل عقولهم، وخواء أنفسهم، وعانى الوطن منهم عناءً أشبه بمعانة الفارس الباسل بجراح سهم أطلقه سفيه من قومه ليس له دراية فيه!

السؤال هو: أينَ يمضي الوطن والزائفون يتكاثرون في قافلته؟ ومن الذي صنعهم، وأسهم في إنتاجهم حتى يكونوا كالرمة التي تأكل جوفه؟ إن وطناً لا يلقي اهتماماً لهذه الظواهر الزائفة، ويقف مكتوف الأيدي أمام انسلاخ القيم الأصيلة فيه، سيصبح فيه الشريف غريباً، والأصيل دخيلاً، والصادق غير مألوف، والنزيه نادراً، وعندها سيلج المجتمع في مستنقع يستحي فيه الرجل أن يقول صدقاً حتى لا يكتبَ في عرف المجتمع بأنه من الرعيل المتخلف.

تفشَّت ظاهرة النفاق الاجتماعي منذ عقود في مجتمعنا لأسباب لا تخفى على عاقل، فسمعت آذاننا من يقول: إن أردتم تحقيق ما ترجونه فنافقوا! أما الشريف فقد أبى، وإباؤه ذاك حرمه مما يستحق، لكنه لم يحرمه من راحة ضميره. هذه الظاهرة ظلَّت تنسل الخبثاء الذين يبيعون مبادئهم في العرصات وفوق الطاولات وليس تحتها حتى يبلغوا مطامحهم في مال أو منصب أو جاه.

واليومَ، نشهد ظاهرة التجني على العلم بصورة فجة، صريحةً، ظاهرةً تنقل كل جاهل أخرق إلى مقام المتعلم الوقور في مشهد العلن الاجتماعي، دون أن يحرك أحد ما ساكناً، فيتقازم دونه كل صاحب علم، جدير بالتوقير، والتبجيل.

واليوم,, نشهد أيضا -في مسار الزيف والعماية والتمويه- ظهور الجهلة والجاهلات الذين يركبون موجة السفاهة والرداءة، فيسوق لهم البعض بأنهم مرضى نفسيون، وهم محتالون، نصابون ليتقدموا الشرفاء في هذا المجتمع مكانةً وتفخيماً!

وفي مقابل ذلك كله؛ أين هي جهود من أوكل لهم الأمر في تعزيز الأصالة، والحفاظ على الهوية، وترسيخ القيم، وإعلاء الشيم؟ هل تراها غادرت شعاراتها، إلى ميادين العمل، وانتقلت من إطاراتها المعلقة إلى تفاصيل الثقافة الاجتماعية؟

ختاماً أقول: إنها والله كلمة لا د وأن نقولها، حتى لا نحاسبَ على كِتمانها؛ حفاظاً على هُوية تداعت عليها المؤثرات كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وليس من سبيل سوى أن يولى الأمر من يعتني بعلاجه، ويبادر لإصلاحه، وينتبه المجتمع للمتغيرات التي تعمل جاهدة على تغييره دون أن يشعر.

ليس من سبيل أن نعِي ما يحدث، ونعمل ما يتوجب علينا عمله صوناً لأنفسنا وأبنائنا من الانزلاق في هوَّة المستنقع، فالقدر يحب السعي، والإصلاح يود الإقدام، والعلاج يحتاج المبادرة.