فرنسا وإفريقيا.. مَن يستعمِر من!؟

علي بن مسعود المعشني

 

لا يزال الكثير من الناس حول العالم يصفون فرنسا بأم الحريات، وثورتها بأم الثورات؛ لقلة إدراكهم ومعرفتهم بفرنسا ووجهها الاستعماري البشع والمتجدِّد، والذي تتساقط أقنعته الزائفة قناعا تلو قناع في كل يوم، رغم كثافة المساحيق والعطور وأدوات التجميل والموضات التي تزفها فرنسا للعالم كل يوم.

فأم الحريات نبتتْ ونشأتْ وتغوَّلت من رحم ثورة جياع يُطالبون بالخبز، وحين استفزهم رد سيدة فرنسا الأولى ماري أنطوانيت حينها بنصحهم بأكل البسكويت والجاتوه كنوع من التهكُّم والتسفِيه بمشاعر جموع الفقراء، تحوَّلت ثورتهم أو انتفاضة الجياع بالأصح إلى طوفان جارف أتى على الأخضر واليابس والعرش الإمبراطوري معهم، وبما أنَّ الفقر لا يصنع ثورات بل وعي الفقير -وكما يقول عالم الاجتماع الشهير كارل ماركس: فإنَّ حراك الفقراء والجياع في فرنسا بقي يراوح مكانه 17 عامًا بلا هُوية ولا مشروع ولا قيادة، وأنتج بعد كل هذا المُخاض العسير وفق معادلة المحصلة الطبيعية دولة جياع، تجوس الأرض بحثًا عن الثروات لنهبها واستعباد شعوبها، وجعل بؤسهم وفقرهم جسرًا تعبر عليه فرنسا والفرنسيون نحو الترف ورغد العيش، وكأنهم بهذا القُبح يردون على مقولة ملكتهم ماري أنطوانيت، التي عايرتهم بفقرهم وبؤسهم ومطالبتهم بكسرة الخبز؛ حيث أصبحتْ فرنسا الاستعمارية تأكل البسكويت والجاتوه والكافيار معًا، وتلقم شعوب مستعمراتها من حاويات القمامة!! لا يستطيع أحد أن يقنعني بأنَّ فرنسا كانت في يوم من الأيام واحة حرية ولا منبع ثورة قيم، وأنا أرى وأسمع وأقرأ عن استباحتها للشعوب ومقدرات الأوطان الطبيعية والبشرية بصور هي أقرب ما تكون إلى القرصنة وجرائم الحرب الصريحة. ففرنسا تنشر البؤس المنظَّم في مستعمراتها في قارة إفريقيا، وتنهب ثرواتها الطبيعية والبشرية، وتعبث بمصائرها ووعيها وحقوقها وثوابتها؛ كي تبقى تحت رحمتها وسيطرتها وطوع بنانها، كي لا تكتشف تلك المستعمرات البائسة في لحظة يقظة ما أنها هي من يستعمر فرنسا ويجعلها تحت رحمتها، بفضل تدفق ثرواتها وخيراتها وعقولها وعمالتها لبعث الحياة في شرايين الاقتصاد فرنسا والفرنسيين معًا. لقد اعترف الرئيسان فرانسوا ميتران وجاك شيراك بفضل إفريقيا على بلادهما؛ حيث وصف الرئيس ميتران علاقة فرنسا بإفريقيا بعلاقة عضوية لا يمكن فصلها، بينما كان الرئيس شيراك أكثر دقة وتفصيلًا في فضل إفريقيا على فرنسا بما يُشبه الاعتراف الصريح بسطو السيد على ثروات خادمه في لحظة تجلي ضمير وصدق مع النفس.

استطاعتْ فرنسا السيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضي؛ تتوزع على قارات العالم، فشكّلت إمبراطوريةً واسعةً، وكان أكثر هذه المستعمرات في قارتي آسيا وإفريقيا، ومن هذه الدول:

- شمال إفريقيا: تونس، والمغرب، وموريتانيا، والجزائر.

- وسط إفريقيا: بنين، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وغينيا، وتوغو، ومالي، والنيجر، والسنغال.

- إفريقيا الاستوائية: الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، والجابون، والكونغو.

- إفريقيا الجنوبية: جزر القمر، ومدغشقر.

- قارة آسيا: سوريا، ولبنان، وشمال العراق، والأناضول.

- الهند الصينية: فيتنام، وكمبوديا، ولاوس.

كما لا تزال فرنسا تحتفظ بعدد من الجزر حول العالم، والتي تبلغ مساحتها الإجمالية 12 مليون كيلومتر مربع؛ أي ما يعادل 20 ضعف مساحة فرنسا.

ورغم الاستقلال الظاهري الذي منحته فرنسا لعدد كبير من مستعمراتها حول العالم، خاصة في القارة الإفريقية في مطلع الستينيات من القرن الماضي، إلا أنها قيدت 14 دولة منها بقيود العملة الإفريقية التي ابتدعتها فرنسا عام 1939م بعد الحرب العالمية الأولى، وهي عملة الفرنك الإفريقي، والمسمَّاة اختصارًا بـ(CFA)، ويحمل في أحرفه الأولى دلالات خطيرة؛ إذ تعني حرفيًّا المستعمرات الفرنسية في إفريقيا.

وهذه الدول هي: جمهورية إفريقيا الوسطى، تشاد، النيجر، مالي، السنغال، غينيا بيساو، بنين، توجو، الكاميرون، بوركينا فاسو، ساحل العاج، غينيا الإستوائية، الكونغو والجابون.

وحول موضوع الفرنك الإفريقي، تقول الإعلامية التونسية وجدان بوعبدالله: "اسم عملة CFA يعني حرفيًّا المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، رغم حصول تلك المستعمرات على استقلالها منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أنها تستخدم عملةً على أراضيها تنعتها بـ"المستعمرات"، وتعاملها معاملة المستعمَر؛ لهذا يُطلِق عليها بعض أساتذة الاقتصاد في العالم عُملةَ "العبودية النقدية الطوعية".

فرضتْ فرنسا عملة CFA شرطًا قبل منح المستعمرات الإفريقية حق التحرر، وفرضت عليها أن يكون سكّ هذه العملة حقَ فرنسا الحصري، وتدفع مقابله الدول الـ14 نحو 50% من ثرواتها ضريبةً للخزينة الفرنسية، ووضع شروط: أن تُسكَّ عملةُ هذه الدول حصراً في فرنسا، وأن تودع 65% من مخزونها من العملة الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، هذه النسبة انخفضت إلى 50% عام 2005م. وهذا المخزون الضخم -الذي يعادل نصف ثروات 14 دولة إفريقية ثرية- ليس على ذمة هذه الدول، ولا يحق لها استغلاله، بل هو مخزون على ذمة الاقتصاد الفرنسي، وتجني فرنسا أرباحاً طائلة منه؛ مما يعني كذلك أن نصف مداخيل 14 دولة هو بيد فرنسا، وقُدر هذا المخزون عام 2014 بـ800 مليار فرنك CFA؛ أي: 12 مليار يورو" (انتهى).

وفي الاحتجاجات الأخيرة بفرنسا، والتي عُرفت بمسيرات السترات الصفراء، والتي تلخَّصت مطالبها الظاهرية في تحسين الظروف المعيشية للمواطن الفرنسي، أبدى وزير الثقافة الفرنسية الأسبق جاك لانج تعاطفه مع مطالب المتظاهرين، وصرح بأن البترول بفرنسا يُفترض أن يكون مجانيًّا لأنه "مسروق" من قارة إفريقيا!!

كما عمَّق وزير الداخلية الإيطالي من جراح فرنسا حين ذكَّرها باستغلال ثروات إفريقيا والعبودية النقدية لـ14 دولة إفريقية من مستعمراتها السابقة.

من هنا، ووفق ما تقدَّم ذِكره، فإنَّ فرنسا تقبع تحت رحمة إفريقيا بكل المقاييس، ومستقبلها يتراوح بين وعي الأفارقة ومنسوب وطنيتهم، ومكر فرنسا ومباركة الغرب، وصمت العالم الحر على عبوديتها، وترقب انقلاب السحر على الساحر.

--------------------------------

قبل اللقاء: فرنسا كَمَن يركَب ظهرَ الأسد؛ حيث يلاقي الإعجاب من قبل الضعفاء، والشفقة من قبل العقلاء.. وبالشكر تدوم النعم.