المواطنة والحب العُذري

د. سيف بن ناصر المعمري

المواطنة لا تزال تحظى بمزيد من الاهتمام في المنطقة، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها الدول والمجتمعات، وإذا نظرنا لهذه المواطنة بأنها -كما يحلو للبعض تعريفها- علاقة وجد وحب شديد بين المواطنين ودولتهم، تتطلب من المحبين (المواطنين) تحمل أية أوضاع صعبة يمر بها هذا المحبوب، فإن هذه الأوضاع هي أفضل وقت لصمود هذا الحب بين الطرفين، فلابد من التأمل والتفكر في هذه الحب؛ فهو قد لا يكون حبًّا عذريًّا يظل شديدا مهما كانت قسوة الظروف، ولا يبذل ولا ينتهي إلا بوفاة المحب كمدا أو عذابا.

"هل المواطنة اليوم لا تزال شكلا من أشكال الحب العذري؟".. سؤال أثاره هذا الأسبوع الدكتور محمد الفيلي أستاذ القانون الدستوري بدولة الكويت، أثناء لقائنا بمسقط، وأسترجع معه مقالا كتبه بهذا العنوان منذ فترة طويلة، ويبدو أن السؤال صعب وجدلي، ولكن لابد أن نقف أمام أنفسنا ونسألها: هل بالفعل نحن نحب أوطاننا حبًّا عذريًّا؟ وهل حكومات أوطاننا تقيم هذا الحب وتبادل المواطنين بحب أكبر يتساوى مع قيمتهم ودورهم كصمام أمان وثروة لا تنضب، وعامل من عوامل البناء، وحائط صد ضد أية أنواء استثنائية تعصف أحيانا اقتصاديًّا أو سياسيا أو اجتماعيا؟

الحب العذري هو تاريخ من المعاناة كما نَقل لنا التاريخ؛ حيث قاسى هؤلاء المحبون الكثير في سبيل الحفاظ على ما يحملون من عاطفة جياشة لمحبوبهم، ولكن كم مُواطن يمكن أن يتحمل تبعات الظروف الاقتصادية، وقلة فرص العمل، ومحدودية فرص الاستثمار، وارتفاع أسعار الرسوم التي يدفعونها والتي تتزايد دون أن تشعر "الحكومات" التي تقود هذه الأوطان بمعاناتهم وظروفهم، واحتياجاتهم، ودون أن تتأثر ولو قليلا بواقعهم، يحاولون أن يُسْمِعوها صوتهم لكن لا تسمع لهم، يعملون على تنبيها ببعض المخاطر والتحديات لكنها تتجاهل، يُطالبونها بأن تساوي بينهم في الفرص والامتيازات ولكنها تفرق، يؤكدون عليها أن لا تستغل حبهم الشديد وتستنزفه، لكنها تستغل هذه العاطفة وتتلاعب بها في كثير من الأحيان، فلا تهم معاناة هؤلاء المواطنين المحبين، ولا يهم ما يُعيق أحلامهم، ولا طموحاتهم، ولا يهم تضييع مواهبهم وطاقاتهم، ولا يهم أن تشغلهم توفير متطلبات الحياة عن عمل أهم وأعمق وهو استغلال إبداعهم في إطلاق تنمية متفردة، لكن من المهم أن يحافظ هؤلاء على حبهم كما حافظ عليه جميل بن معمر، وقيس بن ذريح الذي أصابه مرض شديد من جراء هذا الحب الذي لم يبعث السكينة بداخله رغم أنه هو القائل:

يقر بعيني قربها ويزيدني.. بها كلفا من كان عندي يعيبها

وكم قائل قد قال تب عصيته.. وتلك لعمري توبة لا أتوبها

فيا نفس صبرا لست والله.. فاعلمي بأول نفس غاب منها حبيبها

لماذا تظل الحكومات تروِّج لمواطنة عذرية تقوم في جوهرها على تجاهل هؤلاء المواطنين المحبين، وتأزيم ظروفهم، وتُبَاعِد بينها وبينهم، ولا تسعى للتعبير عن حبها لهم، وتظهر تفانيها من أجلهم؟ لِم تلزمهم دائما بالسعي خلفها وإظهار قرابين حبهم عند عتباتها، بينها تضنُّ هي بقليل من الحب لهم، فتقلص نفقاتها لتزيد من نفقاتهم، وتأخذ أكبر جزء من وقتها لتستمع لهم، وتذهب إليهم حيث يوجدون لتستمع لهمومهم وشكواهم، وتغلظ القول على من يُقلل من شأنهم، وتعطيهم بدلا من أن تأخذ منهم، وتتنازل لهم إن كان التنازل يزيد من قوتهم، وتفتح لهم أبوابها بدلا من أن توصدها في وجوههم بالأرقام السرية والممرات الخاصة، وتتفرَّغ لكي تنشغل بهم واحتياجاتهم بدلا من أن تنشغل عنهم؟ ألا يعدُّ هذا حرصا من قبل الحكومات على ديمومة هذه العلاقة الوطيدة في قلوب هؤلاء المواطنين الذين قد لا يتمكَّن بعضهم من أن يكون مثل توبة الحمير أو كثير بن عبدالرحمن، أو مثل عروة بن حزام العذري، فما ولد في قلوب هؤلاء من حب وصمد لا يمكن أن يصمد في ظل ما تعانيه المواطنة من تحديات في دول المنطقة، تقود إلى تفاوتات، وتمركز حول المصالح الخاصة، فما يجب أن يصل للمواطن العادي لا يصل، ولكن ما يجب أن يصل للمواطن غير العادي يصل مُضاعفا؛ مما يوتر هذه العلاقة الوحدانية حين يشعر المواطنون بأن الحكومات تحب بعضهم أكثر من بعض، وتصل هذا البعض وتجالسه وتباعد بينها وبين البعض الآخر الذي يمثل أغلبية لا تريد أكثر مما تستحق نظير تحملها لظروف هذا "الحبيب" وتقلباته، وتعاملاته في أوقات شدته وأوقات رخائه.

... إنَّ المواطنة لا يمكن أن ترقى اليوم إلى حب عذري كذلك الذي كان يحمله أولئك المحاربون الذين ناضلوا من أجل أن تستقل أوطانهم وتستعيد قوتها، فماتوا وهم مبتسمون، فرحِين بتضحيتهم في سبيل من يحبون؛ فاليوم يبتسم البعض كلما سطا على جزء مهم من ثروة الوطن وأضعَفه، ويفرح حين يظفر منه بما يؤدي حق المواطنين الآخرين، ولا أحد يسأل فيهم عن الظروف الصعبة التي يقاسيها أولئك المواطنون المحبون، فلكي يُثبتوا مواطنتهم لابد أن يُقاسوا ويتحملوا ويضحوا، ذلك هو قدر المواطنة، فلكي تبقى الأوطان حرة مستقرة لابد أن يوجَد الحب العذري في قلوب بعض مواطنيها، أليس هذا امتيازا لا يحصل عليه أحد.. ولنتفكَّر لأبيات محمود درويش كثيرا؛ ففيها معنى لم ندركه بعد:

أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً

مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي،

وغطرسة الوضيع!

أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك!

أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟

وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف

أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى

عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل