بائعة المناديل


رحاب عمر | مصر
 كنت أستقل سيارتي الجديدة، وأرتدى بدلة بيضاء صممت خصيصا لهذا اليوم، استرعاني نظرات الناس فى الطريق وشغلتني اتصالات أبى المتلاحقة وصوته فى كل مرة يذيد من  إزعاجي قائلا: لقد  تأخرت كثيراً،  لم تكن  يوماً على قدر المسئولية، ويغلق الهاتف نافراً. أحاول استرضاءه فأُسرع متخطياً السيارات ومُقتحماً الطريق حتى أتحرر من رنين هذه الكلمة فى خاطري،" لم تكن يوماً على قدر المسئولية " حتى توقفت فى طابور السيارات فى انتظارِ دوري لعبور البوبة والتي تنزر باقترابي.. رأيت ابتسامتها قبل أن أراها،  وميضٌ  ما تهادى  مقبلاً ،مقتحماً فزعي ثاقبا أوجاعي، نعم لقد سبقتها ابتسامتها الرقيقة كانت تقترب وأنا أدقق النظر ، تتهادى وسط السيارات تبيع المناديل تبتسم حينا، ويرتسم على وجهها الحزن والحيرة حينا،  لكنها تتقافز بلياقة تدل على الاعتياد، اقتربت أكثر، فتجلت لى  هالة من وله، وبريقاً من وجد ليست بالقصيرة ولا الطويلة، ترتدى عباءة  سوداء قديمة، وكوفية حمراء،  وحذاء أسود يقص حكايا فقر مدقع،  وشقاءٌ أبدى.
 تبدو ملفوفة القوام رشيقة الخطوة، متناسقة قلبا وقالباً سمراء، لها عيون سوداء ورموش  طويلة، صاحبة مقلٌ  باسمة وأحداق تغنى وخد مبهج تتدعى عليه ورود حمراء تتدلل، و روح من فرط ملائكيتها، صنعت حولها  طاقة وجدانية  مفرطة تتحرك بخفة، وتُقبل عليا بغدق وقوة وبدت التساؤلات فى نفسى ما الذى جعل فتاه عشرينية جميلة كهذه تبيع المناديل؟
وإن كان ضيق الحال مبرراً،  لم لا تعمل فى أحد المحلات أو المطاعم مثلاً، بدلاً عن تنقلها بين السائقين والمارين طول اليوم؟ وبدأت أسئلتي بلا أجوبة إلا أن اِقتربت  دون  سابق إنذار تختال حيرتي تفاجئت بها وأنا غائر فى روحها، تطرق على زجاج سيارتي  فتحت وتناولت بحذر منها المناديل، وبقيت أبحث عن نقود، وهى تنظر لى بسواد عينيها الذى يدفع  صدري بلا رحمة، ابتسمت حين رأتني متوترا مرتجفا لا أجد  مالاً فى السيارة ولا فى جيبي قالت بصوتها الجميل و بكل أدب: خلاص يا فندم.
يا الله، حتى صوتها يارب وكأنه نغم من الجنة عازف على أوتار روحى وكأن لتردده صدىً سمعته من قبل ، وكأنه طرق على أبواب قلبي المغلقة فأوصد خافقي وفتح شهيتي للحياة، حاولت أن أعيد لها المناديل، لكنها رفضت وقالت: سأنتظر حقى عندك  حين تقدر عليه،  وسارت بعيدا والسيارات تسير وأنا اقترب من البوابة أكثر وغابت هى عن عيني إلى أن عَبرت الطريق بعيدا عن أنفاسها.
 أزعجني اتصال أمي مرة بعد مرة، فأغلقت الهاتف وأسرعت أكثر، أسرعت لكنى  تحت قيد لحظة فارقة لن تعود  حياتي  بعدها كالسابق، وكأن زلازل بدلني، لم يهزمنِي  لكنه سواني  أعاد ترتيبي، فى صدري حنين للعودة لها، ترن كلماتها فى أذني:  "سأنتظر حقى  حين تقدر عليه".
أخالها على زجاج النافذة، وأحدث ربي لِمَ هى قريبة من النفس إلى هذا الحد، وكأنى لقيتها بقلبي، واستقبلتها روحى قبل الحياة بحياة واقتربت من القاعة الكبيرة على الطريق،  والساحة أكثر وضوحاً وتلوناً ونغزة فى صدري، بين الحيرة والحزن أتأرجح شيء ما اختلف، لا أدريه لكنى أحسه، كارهُ لتبعيتي وطريق خضوعي لأول مرة، ثورة تولد بين جوانحي، ورفض يشع من احمرار وجهى.
أوقفت السيارة فإذ بأبي يأتي إلىّ معاتبا تأخيري كان لازال أمام القاعة هو وأسرتي ينتظرون وصولي، وبخني بحدة؛ لكنى لا أسمع إلا صمت عينيها.. التفت محاولاً الانتباه.. الأسرة جميعها  حولي بملابسها الفخمة، وهالة من النور والفرح تحاوطهم، أختي الصغيرة تحمل حقيبة كبيرة فيها كل ما اختارته العروس من مجوهرات صعدت السلم بحذر، أراها من بعيد إنها هناك تتلاءلاء بثوب الخطبة البارسي الذى كلف أسرتي الكثير، لكنهم قالوا: ليليق بابنة الاصول والعز صوت أبى يبتعد ويقترب من  أذني وسط صخب  الموسيقى والتهاليل : "لا يهم أن ترتاح لها  أو تستكين،كل النساء سواء، المهم أنها تتناسب مع وضعك "اقترب اكثر تبدو مبتسمة  سعيدة بل تنتشى فرحا وسرورلا استطيع ان أقابلها بذات الابتسامة خاطرني صوت أبى مرة آخرى ولفتحتني صفعته على خدى الأيسر حين اعترضت عليه قائلا: "ولماذا نبغى ثراءً ونحن أثرياء يا أبي".
عليك اللعنة،  قدري أنك الذكر الوحيد فى العائلة.. نعم أنا ذكر وحيد، لا أملك إلا الذكورة.       .. إنه البحر فعلا الذى يهيج فى خاطري كلما اقتربت منها، لا شيء فيها يثيرني، لونها الأبيض الباهت، صفار شعرها  الفاقع، أطنان المكياج فوق وجهها الذى لا أعلم ملامحه إلى الآن، هى  تلك القصيرة الممتلاءة  بين أجولة  الثروة، وحوائط السطوة وتعجبت حين تصورت أن هذا البذخ قد ينقذ بائعة المناديل وأسرتها من الضياع طوال العمر، بل قد ينقلها لطبقة أكثر استقرارا ورقى فأهنأ بها.. ليت أبى يشعر بي، ليت أحدًا يسمع صمتي! واقتربت  أنا الآن فى محاذاة العروس التي هبت واقفة فى سعادة غامرة أسمع دقات قلبها ترقص مع الموسيقى.. أشد  جوانب شفاهي حتى ابتسم لها لا استطيع .. نظرت عميقا استدعى شيئا يغير حالتي حتى لا أُربكها بوجهى المكتئب.. حاولت مرارا وأخيرا  تبسمت...  حين رأيت بوجهها بائعة المناديل تضحك لى.. قبّلتها منتشياً بسواد عينها وعودها الممشوق، جذبتها برفق واخذتها بود بين زراعيا راقصاً  على وتر الخيال والظن والاستدعاء حين الحاجة.

 

تعليق عبر الفيس بوك