المرأة (1- 2)

 

عبيدلي العبيدلي

بوعي كامل، ومع سبق الإصرار والترصد، تعمّدت أن يكون عنوان هذا المقال لفظا مفردًا، هو "المرأة". فأية إضافة لتلك الكلمة، ستجرد موضوع المرأة من تشخيص الحالة الشمولية غير العادلة التي تعالني منها المرأة، والتي يطمح أي فرد في مجتمع ينتمي إلى المجتمع الإنساني المعافى والسليم منذ تكونه، وحتى بعد بلوغه المرحلة المتطورة التي وصلت إليها المجتمعات البشرية اليوم، وقبل أن يمسها التشوّه، "اللاإنساني"، وغير العادل، وربما "غير السوي"، إن جاز لنا القول أن يبلغها. فعندما يتعلق الأمر بموضوع المرأة، هناك كم متراكم من العوامل والأسباب التي ما تزال تحول بين الإنسان وبين الوصول إلى تلك المكانة الإنسانية السامية التي أتحدث عنها، عندما يتعلق الموضوع بالظروف غير الإنسانية التي ما تزال تعيشها المرأة.

فعلى امتداد هذه المسيرة الإنسانية، يصعب تشخيص حالة عجزت تلك المجتمعات عن إنصاف مكون من مكوناتها، كما هي الحال عليه عندما يتعلق الموضوع بواقع المرأة، والحالة التي تعيشها. فقد عانت المرأة من عدم عدالة تلك المجتمعات بشكل عام، وسلوك أفرادها على نحو خاص، وتصرف مكوناتها كمنزلة بين منزلتين كحالة ملموسة، وعلى الصعد كافة: الجسدية الفيزيائية، والمعنوية الذهنية، بل وحتى الاجتماعية على حد سواء.

وحتى عندما يحاول الواحد من التجرد من تأثيرات أية عوامل عاطفية، أو ميول ذاتية، يحاول بواسطتها تقليص نسبة الغبن التي يمارسها هو شخصيا تجاه المرأة، فسوف يكتشف هو، بوعي أو بدون وعي، ومن ورائه المجتمع الذي ينتمي إليه، أن تلك المحاولات لا يمكنها أن تصمد أمام الموجات الجارفة التي تعيد الأمور إلى النحو الذي كانت عليه، وفي القلب منها ممارسة الظلم اللامتناهي الذي يقع على المرأة.

في اختصار شديد، يمكن القول، أنه ليس هناك فئة اجتماعية عانت كما عانت، وما تزال تعاني، من ظلم المجتمع، كما عانت المرأة. وعلى نحو مواز، لم تحظ فئة اجتماعية، بما حظت به المرأة عند الحديث عن المطالبات برفع الظلم عنها، وإعطائها الحقوق التي تستحقها.

فموضوع رفع الغبن عن المرأة، ودعوات إنصافها، تحولت إلى سلوك متواصل يسود نسبة لا يستهان بها من الأفراد، والمنظمات المحلية بها، والوطنية، بما فيها تلك الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، بل وحتى الدولية من مستوى الأمم المتحدة، التي حددت يوما هو الخامس والعشرين من نوفمبر من كل عام، خصصته لرفع الغبن عن المرأة ومناصرتها  ضد أشكال العنف العدواني المتعدد الأشكال الذي تتعرض له.

ولو أمعنا الفكر، وحاولنا بتجرد موضوعي، ومن منطلقات إنسانية محضة، الوقوف على الأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذه "الحالة النسائية"، إن جاز لنا القول، فسوف نكتشف أن هناك أسبابا كثيرة أوصلت المرأة إليها، والتي يمكن رصد الأهم بينها، والأكثر حضورا منها في النقاط التالية:

المكانة "الاستراتيجية" التي لا يمكن أن يتبوأها أحد بخلاف المرأة ذاتها. وإذا ما توقفنا، عند المجتمعات الحديثة، وتحاشينا الغوص عميقا في التاريخ، فسوف نكتشف أن سند العمود الفقري للمجتمعات الإنسانية الحديثة، بما فيها تلك الأكثر تطور والذي هو الأسرة، هي المرأة. إذ يصعب، إن لم يكن يستحيل، الحديث عن أسرة متماسكة تمثل لبنة إيجابية في مسيرة مجتمع معين، دون أن يكون نواتها الصلبة امرأة، التي أصبح غيابها، أو فقدانها، لأي سبب من الأسباب، عاملا أساسيا في هدم تلك الأسرة، ومن ثم دمار ذلك المجتمع. مثل هذه المكانة لا يمكن أن يحتلها أي فرد آخر من أفراد الأسرة.

التراكم الثقافي، الذي زرعت أنويته المختلفة الحضارات المتتالية التي شكلت جوهر التطور الذي عرفته المجتمعات البشرية. وليس هناك من خلاف حول تفاوت درجة النظرة غير العادلة التي أفرزها ذلك التراكم، في البنية الفوقية للمجتمعات البشرية، سواء بفضل قسوة تلك الحضارات، أو التطبيق المشوه، وغير الصحيح لقيمها. محصلة كل ذلك كانت حالة من المعاناة المتصاعدة عاشتها المرأة، ولازمتها، ولا تزال سارية المفعول، رغم ادعاءات الكثير من المجتمعات بتجاوزها. والحديث هنا لا يقف عند حالات فردية استثنائية، أو قطاع معزول من القطاعات المجتمعية، المبتورة عن المكونات المجتمعية الأخرى. وحتى ذلك الأول، يعبر عن فئة ضئيلة من المجتمع، تجد نفسها في حالات كثيرة، حالة استثنائية لا يمكن التعويل عليها عند الحديث عن مشروع شامل لانتشال المرأة من الحالة غير العادلة التي نتحدث عنها.

الأنانية الذكورية، والتي ما تزال مسيطرة حتى يومنا هذا على السلوك "الرجولي" في المجتمع، ويمكن أن تكشف عن نفسها في مواقع معينة عندما يضطر ذلك السلوك عن الإفصاح عن صاحبه، بعد أن يجد هذه الأخير نفسه مجبرا على إزالة تلك الطبقة الكثيفة من مساحيق التجميل التي هالها على نفسه. فعندما ترغم الحالة صاحبها على الوقوف عاريا أمام مجتمعه، ستتكشف، على نحو موضوعي، تلك الأنانية الذكورية التي تفرض المعاناة التي تعيشها المرأة، والتي تفصح في حالات، ليست استثنائية، عن الدرجة "الحيوانية" التي يفرضها ذلك السلوك الذكوري، والوضع "اللاإنساني" الذي تضطر المرأة مرغمة على القبول به، والخضوع لإفرازاته، بوعي كامل، أو بدون وعي ناقص.

"الخنوع" الأنثوي، الذي راكمته في عقل المرأة، بما في ذلك الجزء الباطن منه، وتحول هو الآخر، في حالات ليست استثنائية أيضا، إلى رضوخ واع، أو عفوي من لدن المرأة للظلم الواقع عليها. وليس القصد هنا ممارسة نوع من الاضطهاد الصادر عن نوع اجتماعي "جندري"، بقدر ما هو تشخيص حالة ملموسة تترك آثارها على ذهنية المرأة ذاتها، وتنعكس بشكل مباشر على سلوكياتها التي تأخذ في الكثير من الأحيان، إن لم يكن في غالبيتها نمطا من أنماط الدونية الواعية المقنن، أوالتلقائية العفوية التي تتحول في مناسبات كثيرة، إلى شكل من أشكال السذاجة المجتمعية غير المبررة، تكبل المرأة، وتحصرها في سجن لا يعرف أحد أهواله أكثر من المرأة ذاتها، ولا يدفع ثمن ضريبته أحد سواها، كفرد، أو كفئة اجتماعية.