حاجتنا لتجديد الوعي بالذات!

 

عبدالله العليان

تعيشُ الأمَّة راهنًا وضعًا متأزِّما، وأسباب ذلك عديدة، من الصعب أن يتم مردُّها إلى عامل واحد، فمنذ قرنين، ومع ما سميّ بـ"صدمة الغرب"، وتعني الفارق الكبير مع الغرب في النهوض والتقدم، بعد اكتشاف أوروبا من خلال بعض البعثات الدراسية لأوروبا في التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، شكَّل ما قيل عنه بـ"متاهة الوعي الجديد"، بين ما يعيشه الغرب من تقدم على كل المستويات، خاصة الصناعة، وبين وضع العرب والمسلمين من تخلف وتراجع علمي ونهضوي، وهذا ما دعا البعض لأن يُطلق صَيحة لوعي الأمة، مما هي فيه من تردٍّ، وهو ما أشار إليه الأمير شكيب أرسلان في كتابه "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، هذه الصيحة الواعية بالظرف القاهر لوضع الأمة الحضاري والقيميّ، كانت مدار اهتمام المصلحين من أبناء الأمة، على مختلف مدارسهم الفكرية، والإشكالية أن البعض بدلاً من أنْ يجعل تقدم الآخرين مراجعة لنا في الوعي الأمة لاستنهاضها، اندهش بالواقع الذي رآه، إلى حدِّ الانبهار، والدعوة إلى تقليده في حياته وملبسه وثقافته، وهذا الانبهار والاستسلام لا يحقق نهضة ولا يصنع تقدماً، بل هو مجرَّد استهلاك لما فعله الآخر وأقام عليه نهضته، حتى وصل إلى ما وصل إليه؛ ففي كتابه "تجديد الوعي" للكاتب والأكاديمي المعروف د. عبدالكريم بكار؛ أشار في مُقدمة هذا الكتاب إلى أهمية السعي الدائم إلى فهم المتغيرات والتحولات الفكرية؛ بحيث التعرُّف على ما يجري من تطورات علمية وتقنية، ومحاولة استقراء التحديات التي تقف حائلاً وراء تراجعنا وتخلفنا "فبعد أن يتعرف المرء على وضع الأمور في نصابها الصحيح بتجرده عن مغريات الهوى، وتهويمات الظنون، يضحي لزاما عليه أن ينظر في آليَّات استيعابه للواقع، في تنظيم ردود فعله عليه. إنَّ التجديد -كما يشير بكار- يعني السعي المستمر إلى اكتشاف توازنات جديدة داخل فكرنا وثقافتنا بما يدعم وجودنا القيميّ". ولا شك أن أزمة الوعي التي وقعت فيها الأمة، بسبب تخلفها، أدت لارتباكها في تحديد الأولويات، وكيف نتخذ موقفاّ حضارياً للخروج من هذا الواقع الصعب، الذي نتج عنه التراجع في كثير من المجالات، وهذا بلا شك سبَّب انقسامًا في الوعي، كيف نبدأ في ترتيب الأوضاع؟ وكيف انتشالنا مما نحن فيه؟ وهذا حقيقة إشكالية فكرية، تجاه وعينا وارتباكه، فكانت كما يقول الكاتب: "هي التي تسبب لنا التمزُّق والتشتت، فيبدو -العقل- عاجزاً عن المراجعة والنقد واكتشاف الممكن، كما يبدو حائراً في دمج الثنائيات -الأنا والآخر المادي والمعنوي، القديم والجديد، المبادئ والمصالح- الناتجة عن طليعة تشعب حياتنا الحضرية".

والواقع أن قضية التقدم والتخلف نالت اهتماما كبيراً من المصلحين والمهتمين بقضية الواقع العربي والإسلامي، بعد الاحتكاك بالآخر، واستعماره لنا بعد ذلك، أو ما سمِّي بـ"صدمة الغرب"، كما أشرنا إليه آنفاً، والكلام حولها متشعب ومتعدد الرؤى من حيث التحليل واستنباط الأفكار للخروج من هذا الواقع المتأزم، لكن الملاحظ أن "مصطلح "تخلُّف" لم يَبرُز إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أخذت حركة الاستقلال والتحرر من الاستعمار في التتابع، وحيث ظهر للعيان -نتيجة ما تم من اختلاط بين الأمم- الفوارق التي تفصل بين العالم الغربي بزعامة أمريكا، وباقي دول العالم". والإشكالية كما يراها د.عبدالكريم بكار، أن المعرفة الشاملة من بعض المتخصصين تكون ناقصة عن إمكانية لاستيعاب الواقع استيعاباً مكتملاً، وهو ما جعل الفهم مُضطرباً؛ مما جعلهم "ينظرون إلى الأمور غالباً من أفق تخصصاتهم، ومن ثمَّ فإنهم يفسرون الظواهر المعقدة تفسيراً جزئيًّا مُبتسَراً؛ لذا فإنَّ ظاهرة شديدة العماء والتداخلات كظاهرة "التخلف"، وجدتْ الكثيرين مِمن يُعلِّلها تعليلاً سطحيًّا وخاصًّا، وقد ذكروا لوقوع هذه الظاهرة أسباباً عديدة؛ انطلقت من منظور رؤى طبيعية وعقدية وأخلاقية عديدة".

والحقيقة أنَّ الحاجة لإعادة النظر في المشكلات والأزمات من أهم نتائج تفادي الأخطاء التي تواجه الأمم، إذا ما تمَّت المراجعة الجدية للواقع القائم، وهذا بلا شك يمنحنا تفادي الأخطاء والسلبيات؛ فإعادة للنظر -كما يرى د. بكارـ في أن "الأزمات تمنحنا فرصة للمراجعة والنقد، ولوم النفس على ما كان منها؛ وقد أقسم الله -سبحانه- بالنفس اللوامة؛ لما يوفره اللوم من فرص للتراجع عن الخطأ، وتجديد البُنى الفكرية والأساليب والأدوات التي نستخدمها في إنجازاتنا المختلفة. وقد صار من الشائع القول: "إنَّ كل أزمة تمنحنا فرصة إذا كنا في الموقع الإدراكي الصحيح". وإن من شأن الأزمة أن توهن البنى المختلفة، وتخل بالتوازنات القائمة، لكنها تطلق أيضاً آليات تعويضية، واستجابات جديدة وغير متوقعة، وبذلك تصبح الأزمات فعلاً عاملَ تطور، ومناسبة لإحراز تقدم جديد".

ولا شك أنَّ واقع الأمة الراهن، وغياب تجديد الوعي، وتلافِي الكثير من الأزمات والتراجعات، التي جعلت الأمم الأخرى تتقدم فـ"حين أخذ نجم الحضارة الإسلامية بالأفول، وأخذت النظم التربوية والسياسية والاقتصادية في التداعي، كانت الإمكانات الحضارية هائلة، لكن روح المدنية كانت قد أخذت في الذبول، وتحوَّل المسلم المبدع المقدام إلى مسلم منكمش على ذاته، مرتبك في تفسير أحوال عصره".

فالحلُّ الايجابي -كما يراه المؤلف في هذا الكتاب- أنْ تتحقق فكرة تجديد الوعي بالذات، ومراجعة الواقع وسلبياته، وإتاحة الفرصة للنقد بكل حرية، وتفادي الأخطاء التي أسهمت في التأخر والتخلف لعدة قرون متتالية.. وللحديث بقية.