هلَّا أعدتُم لنا الثقة في ذاتنا العُمانية؟!

حمد بن سالم العلوي

لقد كُنا نعتبُ على الإخوة في دول الخليج، عندما يضعون الوافدين على رأس الوظائف العامة، فيتعرَّضون من بعضهم لسرقات مليارية، فيُعلن عن بعضها ويُستر أو يُتكتَّم على معظمها، وهم يفعلون ذلك حتى لا تهتز الثقة في اقتصادياتهم الوطنية، ونحن نعلم أن لدى دول الجوار من الأموال الطائلة التي تغطي على كل السرقات والاختلاسات مهما كان كمها ومقدارها، ونعلم فظاعة ما يُسرق ويُنهب من ثروات، فيقبض على بعض الفاعلين، ويهرب البعض الآخر ليتنَّعم بالمال المسروق.

لذلك؛ كنا نأسف على تلك السرقات، وكنا نتمنى لو أن الإنسان الوطني هناك هو من يتولى زمام الأمور قياساً على تجربتنا العُمانية، وكنا نرى أن الأوطان لا تصان من السرقات إلا بالأيدي الوطنية؛ لأننا جرَّبنا نزاهة وذمة المواطن في جانبنا، عندما يُوضع محلاً للثقة؛ ذلك ما لمسناه منه مع بداية النهضة العُمانية الحديثة، فوثقنا تمام الثقة في الإنسان الوطني لدينا، ولكن -يا سبحان الله- اتَّضح أن لا شيء يدوم بالتمني دون رعاية وضوابط، وأنَّ ليس كل عُماني وطنيًّا بالوراثة، مع التسليم بوجود شوائب متفاوتة في كل المجتمعات البشرية؛ فهي تزيد وتنقص نسبتها حسب التربية، وما يُنشَّأْ عليه الإنسان عقائديًّا ودينيًّا.

فهل يا تُرى نحتاج أن نضع خلف كل موظف شرطيًّا يُراقِب سلوكه؟! وخلف كل شرطي رجلَ أمنٍ يقيِّم أداءه؟! وخلف كل رجل أمن رجلَ مخابرات يُسجِّل عليه تصرفاته؟! وخلف كل رجل مخابرات رجلَ ادعاء عام يوجِّه تصرفاته؟! وخلف كل رجل ادعاء عام قاضيًا يضبطهم جميعاً وفوراً وبالرقابة القانونية المُحكمة؟.. تُرى هل هكذا تسير الأمور؟! حتى نأمَن بوائق النفوس في العمل اليومي؟!

لقد كُنَّا نضربُ المثل بأمانة الإنسان العُماني؛ وذلك قياساً على الممارسة والتجربة، واعتماداً على قَنَاعة نفسه بما قَسَم الله له، وإنَّه سيظل يمقتُ الجريمة والخيانة، ويُحرِّم على نفسه المال الحرام، ولكن الابتعاد عن الدين وهجر المسجد، وإهمال التربية على القيم والأخلاق الحميدة، فقد أدى كل ذلك إلى ضعف النفوس، وتراخٍ في الوازع الديني، فأُعطِيت للضمير إجازة طويلة، وأبعد عن الرقابة الذاتية، فصارت الأعمال اليومية يؤديها الإنسان بلا وعي ولا وازع من نفس، ولا خوف من عقاب دنيوي أو أخروي، فأفلتت الضوابط وتاه الناس بين السَّبق اللَّبق، وصار المال العام مباحًا لدى البعض، وقد أصبح مثل لقاط أو (رقاط) الرايحة وهذا مصطلح للريح الشديدة زمن القيظ، حيث تتساقط من ثمار النخيل بفعل الريح، وجرى العرف المحلي على أن الرُّطب المتساقط للكافة.

إذن؛ ليس المال النقدي هو الوحيد محلاً للسرقة أو الاختلاس، وإنما هناك جوانب كثيرة يُعد إتيانها سرقة؛ فعلى سبيل المثال: التأخر عن مباشرة العمل سرقة، والخروج من العمل وتعطيل خدمات الناس سرقة، والتذمر والتَّسبْهن والتقاعس في العمل سرقة، وتأخير مصالح الناس باختلاق العراقيل والأعذار سرقة، وتعقيد المعاملات وتنفير المستثمرين سرقة، والتكشير في وجوه الناس والتَّنمُّر عليهم سرقة، فكلُّ شيء لا يجلب مصلحة للناس والدولة يُعد فعله سرقة، ويجب محاسبة كل موظف مهما علت مكانته الوظيفية، والعمل على معاقبته وتأديبه بما يستحق على تقصيره، ثم أين المعايير التي حُدِّدت للإنجاز اليومي، كما أوضح ذلك نظام مركز الدعم "تنفيذ" يوم أعلن عن تشكيله، بل أين هو هذا "التنفيذ كله بشحمه ولحمه" اليوم؟ أين اختفى؟! لم نسمع له صوتاً، ولم نرَ له ملامحَ على الساحة العامة؟!

تُرى لو كان جهاز "تنفيذ" حاضراً، وجهاز الرقابة المالية والإدارية حاضراً كذلك، هل كانت جريمة الاختلاس المليونية التي تحدث عنها "الواتساب" ستحدُث؟! وهي بتلك السذاجة التي تناقلتها الألسن، فلو كان يعلم الفاعلون لها أن هناك عقوبة رادعة في انتظارهم، هل كانوا سيفعلون ما فعلوا بتلك الأريحية والبساطة، إنْ كان حصل فعلاً كما وُصِف -فنحن إلى الآن لا نعرف كامل الحقيقة، ولكنها كانت مسرحية طويلة وسيئة الإخراج- هذا إذا استبعدنا مشاعر الخوف من الله، أو الخوف من العقوبة الدنيوية، إلا أن مصيرها كان سيؤول إلى أن تُكتشف وتُعرف عاجلاً أم آجلاً؛ لأنه من غير المعقول أن لا يأتي وقت ويُسأل عن مشروع بهذا الحجم، وله صفة الديمومة والاستمرارية، وبه موظفون وهميون، ويقدم خدمة عامة وهميَّة أيضاً، ولا أحد سيعرف عنه شيئاً، وستكون قمة السخرية إن طُلِب له ترميم وصيانة كذلك، فعلاً شر البلية ما يضحك!

لقد آن الأوان أن نفعل شيئاً مختلفاً عن هذا الروتين المخل المُمل، وأن نصنع دولة كما رسم لها صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله وأبقاه- وخطَّط لها مستقبلها، بأن تكون دولة ذات أمجاد نحن من بناها ولسنا ورثناها وحسب، لا كما تجري الأمور وجرت إلى اليوم، لأننا ما عدنا نشعر أنَّ هناك ذلك المسؤول الذي يُعتمد عليه في بناء الوطن بصدق وإخلاص، إلا بالقدر الذي يُقال عنه "اللهم نفسي نفسي"، وإن التَّغني بالماضي وما فعله الأجداد لا يكفي، فأين الذي فعلناه نحن حتى نُعلي البنيان، ونستعيد سيرة ورثناها منهم يُشار إليها بالفضل والمجد.

إذن؛ لا يكفي أن نظل نراقب ما سرقه قُطَّاع الطرق على الدوام، أكانوا في الداخل أو في الخارج، ونلهث خلفهم ونشكوهم إلى الله وحده، لأنهم سرقوا كل شيء وجدوه سائباً بلا رقيب أو حسيب، نريد من يرد إلينا اعتبارنا، وأن يرد إلينا كرامة الوطن وسمعته الطيبة، لا أن يظل البعض يجرُّنا إلى مقارنات ظالمة مع الجوار، وأن يُترك المواطن تلعب به الوساوس والأوهام، فالذي نريده طمأنينة للنفوس، ومنحها الثقة الضرورية بالمصارحة والمكاشفة، وإشعار هذا المواطن أن له قيمة كبرى في وطنه وخارجه؛ لأنه هو من سيذود عنه بكل غال ونفيس، وليس لقيِّطة الرايحة، حتى إذا ما اهتز غُصن، هربوا إلى حيث تركوا مالهم المسروق، ليوم نحس قد يأتي عليهم، اللهم أبعد عنَّا النحس وخيانة الخائنين، وكيد المندسِّين إخوان الشياطين .. اللهم آمين يا رب العالمين.