فكر الاستشراف

حاتم الطائي

◄ الدراسات المستقبلية ليست نوعاً من التنجيم أو التنبؤ بالغيب بل التحسب الفطِن للمواقف والتحديات

◄ رؤية "عمان 2040" أبرز مثال لتوضيح النهج الاستشرافي والفكر المُستقبلي القائم على أسس منهجية رصينة

◄ الجهود الاستشرافية للمُستقبل لن يُكتب لها النجاح ما لم تتعاطَ مع أصغر المُشكلات على أنَّها تحدٍ مُستقبلي

 

تنهضُ الأمم دائماً وفق عناصر نجاح لا يختلف عليها اثنان، عناصر تقوم في جوهرها على رؤى واضحة تقود المُجتمعات نحو التَّقدم والرُّقي، وأحد أبرز هذه العناصر هو القدرة على استشراف المُستقبل، وتوظيفها لخدمة الأهداف التنموية والتطويرية على المديين المُتوسط والطويل الأجل، لذا تتزايد أهمية الحديث عن استشراف المُستقبل ودور الفكر الاستشرافي في دفع الحضارات إلى الأمام، بناءً على مُعطيات العلم وقواعد التخطيط السليم والأسس الصحيحة لاتخاذ القرار.

وأود قبل الخوض في فوائد وآليات اتباع نهج استشرافي أن أشير إلى ما تعني الدراسات المُستقبلية أو ما بات يُعرف بعلم دراسة المُستقبليات، وهو علم حديث نسبياً، رغم قدم المنهجية، ويعني ببساطة كيفية التفكير في وضع آليات تضمن التعامل مع مُختلف الأحداث والمواقف التي من المُحتمل أن نمر بها في المُستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد، سواءً على مستوى الفرد أو المجتمع، ومن ثم تفادي المشكلات التي قد تنجم عن هذه الأحداث. وعندما نتحدث عن "علم" فإننا بكل تأكيد نُشير إلى أسس منطقية تقوم على الافتراضات والتجربة، ومن ثمَّ وضع الحل الذي يُمكن أن يُعزز من أدائنا وقدرتنا على مواجهة المتغيرات. وفي المقابل، فإنَّ الدراسات المستقبلية ليست نوعاً من التنجيم أو التنبؤ بالغيب، بل التحسب الفطِن للمواقف والتحديات التي نمر بها في مُختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وبعد ذلك وضع الفرضيات العقلانية في التعامل مع تلك المواقف والتحديات، عبر صياغة سيناريوهات تُحاكي تلك الاحتمالات التي افترضناها وتسعى جاهدة لتقليل حجم المخاطر وتعظيم الفوائد والمنافع، وفي النهاية الوصول لبر الأمان، من خلال تحقيق الأهداف التي وضعت هذه السيناريوهات من أجلها.

ونحنُ هنا لا نتحدَّث عن الرغبة في وضع حلول مثالية، بل نُشير بوضوح إلى التخطيط المُتقن للمُستقبل الذي نُريده، فإذا كنَّا نُريد مواصلة التنمية المُستدامة وتطوير الاقتصاد، وغيرها من عوامل النمو التي تنشدها الدول، فإننا بذلك نكون قد وضعنا رؤية مُحددة المعالم لا تتجاوز حدود المنطق فتكون أشبه بالحلول المثالية التي ربما لن نستطيع أن ننجزها كلها، ولا نضع رؤية تقوم على الحد الأدنى من المتطلبات، فالغايات يجب أن تتحلى بالشغف نحو بلوغ الأفضل، إلا أنَّ هذا الأفضل لا يتعين أن يتصف بالمثالية، حتى لا نفقد البوصلة وتضيع الجهود سدى.

والاستشراف يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية؛ أولها: بناء جهود الرصد والتحليل للمُعطيات القائمة في الوقت الحاضر مع الاستفادة من التجارب التاريخية التي تحققت في الماضي، وهذا العمل الرصدي يجب أن يتم وفق أسس منهجية تأخذ بأحدث أساليب العلم والتكنولوجيا، وتوظف الطاقات الإبداعية للكوادر الوطنية في شتى المجالات، أما المحور الثاني في عملية الاستشراف فهو توقع الأحداث، من خلال أدوات القياس والاستقراء المستند إلى وسائل المنطق والتفكير العقلاني، بناءً على ما تمَّ جمعه من مُعطيات في المحور الأول وهو الرصد، وعملية التوقع هذه تحقق النجاح المأمول منها إذا ما أُخذ بعين الاعتبار الدقة في قراءة الأحداث بعينٍ فاحصةٍ دون تهوين أو تهويل. ومن ثمَّ يأتي المحور الثالث وهو طرح الحلول العملية القادرة على تجاوز التحديات والتعاطي مع الإشكاليات، بل وأيضاً تنفيذ الخُطط الرامية لتطوير العمل وتجويد الأداء.

وأبرز مثال يمكن أن نسوقه هنا لتوضيح ذلك النهج الاستشرافي والفكر المُستقبلي، رؤية "عمان 2040"، والتي تؤكد في المقام الأول النهج الاستشرافي في فكر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المُعظم- حفظه الله ورعاه-، والتي تأتي أيضًا في أعقاب رؤية "عمان 2020" والتي تمَّ وضعها قبل سنوات، وفي المنتصف من هاتين الرؤيتين الخُطط التنموية الخمسية. فجلالته- أيده الله- يولي الحرص الكبير على قيادة بلادنا نحو مرافئ الاستقرار والتقدم، ولقد أدرك جلالته- أبقاه الله- منذ بواكير النهضة الحديثة أنّ عُمان لن تتقدم ما لم تأخذ بأدوات العصر، من تفكير إستراتيجي واستشرافي.

ورؤية "عمان 2040" يمكن أن اعتبرها التجسيد الحقيقي للمحاور الثلاثة للنهج الاستشرافي الذي ذكرته آنفًا، فهذه الرؤية الطموحة تستفيد من الماضي عبر تفادي الحلول التي تمَّ وضعها من قبل ولم تحقق الأهداف المأمولة والمُتوقعة، لكنها في الوقت نفسه تطرح البدائل الكفيلة بالوصول إلى ما نسعى إليه من تقدم ونمو. كما أنها تبني التوجهات المستقبلية وفق افتراضات طموحة، فوضعت محاور أساسية هي: الإنسان والمجتمع، وتستهدف وضع رؤى وخطط تضمن تحقيق رفاهية هذا الإنسان بناءً على ما يتم إنجازه من نمو اقتصادي، بجانب المُحافظة على هوية المجتمع، دون أن يتأثر بالعوامل الخارجية التي تُهدد تماسكه أو أفكاره وقيمه الأصيلة. بينما يقوم المحور الثاني من هذه الرؤية على الاقتصاد والتنمية، عبر خطط التنويع الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص وتنفيذ مشروعات التنمية. أما المحور الأخير من هذه الرؤية فيتمثل في الحوكمة والأداء المؤسسي، بما يضمن وجود مؤسسات تحتكم إلى سيادة القانون، وتحقق الاتقان والجودة في العمل، وفق معايير شفافة ونزيهة.

إذن الاستشراف عملية تكاملية، تعتمد على قراءة واعية للماضي تستخلص العِبر والدروس وتستمد منه الحافز والدافع نحو مُواصلة التطوير والتحديث، وكذلك رؤية عميقة للحاضر تستفيد من التطورات المتلاحقة وتضمن نجاعة التفكير المُستقبلي، من خلال التخطيط الإستراتيجي القائم على منهجية مستقبلية واضحة المعالم والأهداف.

لكن هل نكتفي بذلك الحد من الفكر الاستشرافي من خلال وضع رؤى وتصورات عامة لا تمسك بتلابيب القضايا الحياتية التي نواجهها، وتغوص في تفاصيل الإشكاليات والتحديات اليومية التي يتعين علينا مجابهتها؟

أرى أنَّ الجهود الاستشرافية للمُستقبل لن يُكتب لها النجاح ما لم تتعاطَ مع أصغر المُشكلات على أنَّها تحدٍ مُستقبلي يجب الاستعداد له ووضع الحلول لتفاديه، فمعظم النار من مستصغر الشرر، وهذا ليس تشاؤماً أو افتراضًا لوقوع السيئ، بل تجنباً لأي تهوين للتحديات.

إنَّ قضايا الاستشراف وتحديات التفكير المستقبلي ينبغي أن تحتل الصدارة في الذهنية المجتمعية، على المستوى المؤسسي في الدولة، من وزارات وهيئات وكيانات إدارية وتنفيذية بمختلف درجاتها، وكذلك على مستوى الأفراد، وأخص منهم المفكرون وأصحاب الرأي والكلمة، والعلماء، والخبراء والمتخصصون كلٌ في مجاله، وإذا ما تضافرت هذه الجهود واجتمعت في بوتقة واحدة، فإنَّ التقدم حليفنا والرقي والرخاء مرسى سفينة هذا الوطن بإذن الله، وقبل كل ذلك وبالتوازي معه أيضاً علينا أن نعمل بكل جدٍ واجتهاد، ولا نتحجج بعدم القدرة على التنفيذ، أو أنَّ المعوقات عديدة، ولا نتذرع بأننا لا نملك الإمكانيات أو لا نستطيع، فالإرادة الإنسانية هي الموجهة والمُنفذة للخطط والاستراتيجيات وليس النقيض من ذلك.