الحلاق الذي سينقذنا!!

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

لم يخطر في بالنا ونحن خلال السنوات نبحث عن منقذ يحمي موازنة البلاد من الاستنزاف أنّ المنقذ يعيش بيننا ولكن لم يخطر على بال أحد؛ رغم أنّ الجميع يتردد عليه بشكل أسبوعي، ويجلس أمامه على كرسي متحرك يمكن أن يصعد أو يهبط، ويمكن أن يوجهه يمينا أو يسارا، يجلس لديه مطمئنا مغمض العينين رغم خطورة الأدوات التي يستخدمها من مكائن أو "شفرات حلاقة" أو مقصات مختلفة حادة، دون أن يتسلل القلق لديه من حرص هذا الشخص على حياته.

فلم نسمع أنّ أحد يوما جُرِح بشكل متعمد في محل "الحلاقة"، ولم نسمع يوما أنّ هذا "الحلاق" استنزف موازنة أحد، فرغم ما يقوم به من عملية فنية دقيقة خطيرة إلا أنه لا يأخذ نظيرها في غالب الأحيان إلا "دراهم معدودة"، وبالتالي لما لا يكون هذا "القوي الأمين" هو منقذنا مما نحن فيه من استنزاف لموازنتنا، التي  يريد الجميع أن يأخذ منها من مؤسسات وأفراد، كبارا وصغارا، شيوخا وتجارا، مواطنين وغير مواطنين، فلا أحد "يستعفف" عن الأخذ منها وإن لم يكن محتاجا، بل إن البعض يكتال منها أكثر مما ينبغي، والبعض يخسر له الكيل منها، ومع ذلك الجميع باختلاف مستوياتهم مطالبون بتحمل مسؤولية ما تمر به الموازنة في السنوات الأخيرة من ضيق لا أحد يدرك حجمه.

لم يفلح أحد في التعرّف على هذا المنقذ، رغم الذكاء الذي يحمله البعض مما قاد إلى تقليده العديد من المسؤوليات الاقتصادية، ولم ينجح أحد من المستشاريين والخبراء الأجانب المصطفين بعناية أن يساعدنا في تعرف "المنقذ" لموازنتنا، رغم بحثهم واجتماعاتهم المستمرة، ورغم إدعائهم بالحكمة والحنكة والدراية، ورغم إطلاقهم العديد من المبادرات الاقتصادية، ورغم ربطهم الأمر بالتحول نحو الثورة الصناعية، والذكاء  الاصطناعي، وإيجاد أجيال تنافس في المجالات المعرفية المعقدة التي يتحول إليها العالم، إلا أن كل هؤلاء لم يتمكنوا  من إنقاذ هذه الموازنة، ولا نجاح يلوح في الأفق لما فكروا فيه أو  أطلقوه من مبادرات لإنقاذ هذه الموازنة، واكتشف البعض أخيرا أن "الحلاق" هو منقذنا ونصف شعبنا يجلس مع هذا الحلاق مرتين خلال الأسبوع على الأقل، ويمنحه في المتوسط ما لا يقل عن ريالين ونصف الريال، وبالتالي كم من القوة التي يملكها هذا الحلاق لكي يوقف النزيف الخارجي للموازنة والذي بلغ خلال عامي 2016-2017 ما يقارب من سبعة مليارات، هل يمكن أن يقود الحلاقون العمانيون إلى استبقاء على الأقل مليار دولار داخل البلد لو قبلوا العمل في هذه المهنة؟

ما يعنينا هنا ليس من خرج بهذا الاكتشاف أو الرأي فعلينا أن نحسن النية، فربما خانه التعبير أو التقدير في استخدام العبارة، وربما بالفعل لديه معتقدات معينة بأنّ المهنيين هم الذين سينقذون موازنة عمان، وينقذونها على المدى الطويل من تحويلات هذه العمالة الوافدة التي تتكاثر في هذه المهن نتيجة عدم تواجد العمانيين فيها، ولذا فموضوعنا ليس صاحب الاكتشاف إنّما ما يدور حول سياسة كبرى هي التخطيط الاقتصادي وعلاقته بـ"التعمين"؛ وهي سياسة انطلقت منذ ما يزيد على ثلاثين عاما، وانطلقت للأسف بشكل لا يتلاءم مع طبيعة المجتمع كأحد المجتمعات النفطية الذي مر بتحولات اجتماعية وثقافية لها موقفها من بعض المهن إما بسبب الدخل أو بسبب النظرة الاجتماعية. يومها كان عدد الباحثين عن عمل قليلا جدا، ويمكن أن يعملوا في وظائف أفضل تضمن لهم تقديم إضافة نوعية لاقتصاد البلد، وكان إيمان بعض الاقتصاديين والحكوميين أنّ الشباب لابد أن يعملوا في محطات البترول بدخول هزيلة لا تتعدى 100 أو 150 ريالا في ظل غياب أية تغطيات تأمينية، ومرت العقود والمشكلة نفسها رغم التطورات الاقتصادية والتقنية ونوعية الوظائف والتوسع فيها، إلا أننا نتفاجأ أنّ البعض لا يزال يحمل الحلول نفسها، وهذا يعني عدة أشياء منها: أولاً فشل سياسات التعمين والقائمين عليها خلال كل هذه السنوات والدليل أن ما يقارب من 70% من العاملين العمانيين في القطاع الخاص رواتبهم أقل من 400 ريال عماني، وثانياً، أنّ هناك توجها لربط استنزاف موازنة الدولة بعاملين؛ هما تحويلات العمالة الوافدة وعدم عمل الشباب في المهن الخدمية ومنها مهنة الحلاق.

فيما لا يتم ربط الوضع بعوامل مؤثرة بدرجة كبيرة هي الفساد المالي الذي يقود إلى خسارة ملايين الريالات سنويا، ولا بطريقة إدارة الموارد الوطنية والتي يمكن أن تخلق وظائف أفضل تجعل من الشباب العمانيين يعملون في وظائف ذات دخول عالية يحركون بها دوران الاقتصاد، وأمام كل ذلك الإخفاق يحمل المواطن في صورة الحلاق أو غيره من الصور مرة أخرى مسؤولية كبيرة جدا عجز عنها كبار المخططين والمسؤولين الاقتصاديين خلال هذه السنوات؛ وهي إما إغراق موازنة البلد أو إنقاذها. أليس هذا الأمر يدعو إلى التناقض في الفكر الاقتصادي؟! وكذلك في الفكر التنموي؟ أطرح هذه الأسئلة وأؤكد مرة أخرى أننا نفتح النقاش حول هذه القضية الوطنية الشائكة ولا نريد أن نُدين أحدا ولا أن نقدح في أحد، ومن شاء تأويل النص خارج إطاره فله ما يشاء ومن أراد أن يقرأه بموضوعية وتجرد فذلك أدعى للحكمة والصواب.

إنّ الحلاق الذي يمكن أن ينقذ موازنة الدولة من الاستنزاف هو ليس الحلاق الذي نعرفه جميعا ونقدر المهنة التي يقوم بها، ولكن الحلاق الذي يمكنه أن يقوم بهذه المهمة الكبيرة هو ذلك الذي بإمكانه أن يحلق بماكينته كل السياسات الاقتصادية التي لم تؤتِ أكلها حتى اليوم بل ضاعفت من الخسائر والتحديات، هو ذلك الحلاق الذي يمكن أن يقص بمقصه كل الأصفار غير الطبيعية التي توضع أمام الأرقام التي تنفذ بها المشاريع والمناقصات الحكومية، هوالذي يقص تلك القرارات والقوانين التي تكبل الحياة الاقتصادية، وهو ذلك الحلاق الذي ينجح في "فَرْدِ" ذلك التشابك في المجالس والمناصب والمصالح والتي تحتكر الاقتصاد وقراراته، هو الحلاق الذي ينتزع بالخيط "المختلسين" واحدا واحدا من المؤسسات، هو الحلاق الذي يرفض أن يصبغ أو يستخدم أصباغا تُزين واقع المؤسسات وإخفاقها، هو الذي يعرف كيف يبدع "قصات" اقتصادية تلائمنا لا أن يحاكي قصّات مأخوذة من مجتمعات أخرى، هو القادر على إزالة كل البقع التي ترسبت على وجه بعض المؤسسات أو السياسات خلال هذه السنوات، هو الحاذق في  الكشف عن الطفيليات تمص منذ سنين  الموازنة وتصيبها بالارتباك وتجعلها غير قادرة على التعافي لفترة طويلة. إن كان هذا هو الحلاق المقصود فلا نختلف أنّه سوف ينقذ موازنة الدولة، وإن لم يكن هو فنحن على حد تعبير الشاعر محمود درويش:

واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا// ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.

ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ على كُلِّ شيء: مختلفون على النسبة المئوية، والعامّ والخاص.

مختلفون على كل شيء. لنا هدف واحد: أَن نكون// ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ.