قراءة في "خارج الفصول تعلّمت الطّيران" لشيخة حليوى


سمر لاشين | شاعرة وناقدة من مصر

"تأريخ الأحداث التاريخية بلغة الشّعر"
     التأريخ المعاصر للأحداث  يتم كتابته بأكثر من طريقة، يكتبه المؤرخ عند توثيقه للأحداث ، والروائي من خلال عمل روائي يحكي فيه الأحداث بشكل درامي، والرسام من خلال ريشته، والشاعر يكتبه في شكل قصائد، وهكذا،  السؤال هنا هل يوازي العمل الأدبي والفني قيمة التأريخ الذي يكتبه المؤرخون ؟ وهل يصح القول أن العمل الأدبي والفني، عمل مكمل ومصحح أحيانا لكتابة المؤرخين ؟
     في ديوان " خارج الفصول تعلّمت الطّيران *" شيخة حليوى هنا لا تكتب شعراً فحسب هي تؤرخ فترة من تاريخ فلسطين عاشتها في قريتها " ذيل العِرج – الرّيّ " البدوية بالقرب من حيفا، وهي قرية غير معترف بها من قبل السلطات الإسرائيلية،  التي كانت المهد الأوّل لبداوتها والتي تم تهجيرهم منها وتوزيعهم كلاجئين في قرى وبلدات المنطقة تقول شيخة عن ذلك  " أنا بدويّة الأصل والمنشأ، بدويّة الهوى والفكر، لاجئة في مدينة عشقتُ هواها وأزقّتها في صغري، ولكنّها لم تنجح يوما في استلابي نَزَق بداوتي …ما زلت أحلم بالبدويّ، وأغضب بالبدويّ وأشتمُ بالبدويّ…وأهوى بالبدويّ!"
   كتابة التاريخ بلغة الشّعر يجعله خالداً وشاهداً على أحداث قد يحاول صعاليك السياسة تغييرها، لأنه يحمل معه بجانب الحدث التاريخ الشعور الإنساني المصاحب له، بعكس كتب التاريخ الجافة المكتظة بالأحداث  والتواريخ، لذا نجد أن شيخة تؤصل لرسم معالم كل شيء حولها لتكتب التاريخ بلغتها هي، اللغة التي تعرفها ويجهلها السياسيون وصنّاع التاريخ ، تبدؤها بالمكان في مجموعة قصائد عنوانها " نصوص المكان " وفيها تحدد الأماكن  وتذكر الأحداث المرتبطة بها وكأنها تسعى لتأريخ المكان بكل ما فيه من أحداث بلغه الشّعر.

توظيف المكان في النّص الأدبي وجعله محور الأحداث وشاهداً عليها:
    تبدأ شيخة الديوان بإهداء " إلى أمي وآخرين " إذن أنت مدعو أيها القارئ للدخول إلى عالم داخل فصوله، وليس خارجها، يمكن أن تتعلم الطيران،  ستدهش حين تجد شيخة بانتظارك تأخذك من يدك بلغة ناعمة يفهمها كل من طرق باب الديوان وفتحت له،
ستجد نفسك تمرّ معها أمام قريتها لتحكي لك عن تفاصيل التهجير  وكيف أنّها كلما مرّت من أمام قريتها تجد أن ملامحها تتغيّر من مرور لآخر ثم تنظر إلى بقايا القرية وتقول : " كنت أحصي المصاطب الشاهدة على البيوت المهدّمة عن بعد، أرسمُ الدرب الترابيّ المتعرّج المؤدّي لبيت جدّي. فالمصاطب في قريتي كبيرة وواسعة والقلوب أيضا" وتقف على بعد شهقة حنين منها وتكمل:
" منذُ سقطت قريتي التي كنت أمقتها كسائقي الشّاحنات الصّباحيّة
لم يعد يُخيفني سقوط المدن.
لم أكنْ هناك وهي تسقط.
قطعتُ حبلنا السريّ وأنا أغادرها إلى يافا للأبد وهي تغادرني ليوميْن فقط.
ما زلتُ لا أطيق سائقي الشاحنات الصباحيّة
غير أنّني أرى في منامي ربيع قريتي لا يشبهه أيّ ربيع."
وتكمل: شارع ونهرٌ صغير يفصلان بين قريتنا وبين المستوطنة اليهوديّة المقابلة، وهما يفصلان بين عالمين وعصريْن، مستوطنة يهوديّة ‘معترف بها’ دائمة التطوّر، وقريتنا المصنّفة بحسب سياسة المحتلّ ‘قرية غير معترف بها، لن تصدق، محطّة الباص اليتيمة التي تربطنا بالعالم المتحضّر كانت الشاهد الوحيد على قريتنا الوادعة في أسفل جبل الكرمل.  
ستقترب منك وتقول لابأس عزيزي لقد اعتدت الألم : دعنا نمر من هذا الشارع، الشوارع عندنا متعبة من عد خطى المارة من حكايات النساء التي تمرّ عليها.  ستخبرك في " شارع نائم " عن امرأة بظهرٍ محنيّ تجمع زجاجات فارغة تضعها في سلتها بينما يتبعها الشارع وهو يتهيأ لقلب سيسقط منها، أو تجعلك تمر من" شارع اسبينوزا " الذي تسدد فيها امرأة ضرائب الحياة قبل موعدها والتي تخطئ في اسم الشارع واسم زوجها.
في الشارع مركز تجميل ستخبرك أنه لبيع الجمال المؤقت، ومتجر " إنها بداية الموسم ، الحرب تفتح كل الأبواب ". في السوبر ماركت ستشتري معها كل المنتجات الا التي موجودة في معلبات يهودية وستخبرك أن:
"العاملون منهمكون في إرضاء الربّ. وربّ العمل أيضا.
يرمقهم من بعيد. يطمئنُّ على قوانين ربّ اليهود والأعياد وهيئة تطبيق الحلال."
وأنتما تجلسان على مقعد خشبي في الحديقة العامة (المقعد الخشبي يرمز لكل ما هو قديم تأتي عليه الحكومات فتزيله بأعصاب باردة أو تشوه، مع أنه يحمل معه عبق التاريخ والذكريات وحكايات من مروا به، هو تاريخ للبلاد والأشخاص الذين  شاركوها وشاركتهم حياتهم، لكنها مهنة السياسيين "طمر ومحو الاحداث والأشياء" خوفًا من ادانتهم يوما) ستخبرك عن :
" المقعد الخشبيّ القديم الذي أزالته البلديّة من الحديقة العامّة بكاهُ عجوز وشجرة.
الشّجرة ليست أمّه.
كانت تحنو عليه كأمّه وعلى أشياء أخرى."
وعندما تسمعان صوت طائرة تحلق فوقكما ستخبرك عن الشعور العام للفلسطينيين كأنهم في قفص أو سجن كبير يروي هذه الطائرات أفضل حالا منهم ، تخرج للعالم الخارجي وتعود ثانية ينظرون اليها هي القادمة من عالم يسمعون عنه ولا يقدرون الوصول إليه .... لكنها تفعل.
ثم تبتسم عندما ترى الأطفال وهم يحاولون رسم الآلهة بأقلام ملونة على جدار المعبد ليخبرهم المعلم أن يحاولوا مرة أخرى، ربما ينجحون في المرة القادمة، في رسمِ إلهٍ ملون.
وأنتما تسيران باتجاه النهر ستخبرك أنها تفكر حين تصل سنّ التّقاعد أن تقوم برحلة نسويّة مع تسع نساء إلى جورجيا التي تسمع عنها فقط،  وستضحك حين تخبرك أن من بين أفراد الرحلة ستكون هناك عجوز ثرثارة، تنتظر عملية التجميل العاشرة، وأنها لن تجاملها وهى على مشارف الستين ستقول لها : كفى كذباً.
" في جورجيا التي لا أعرفها لن أوهم نفسي أنني في الأربعين.
 سأجعل من الستين فرحا مؤقّتا قبل أوّل عملية تجميل أجريها.
قد أكون عندها أفرغت كلّ أسراري وخسرت أصدقائي الأتقياء. "
الطريق إلى النهر طويل، ستتحدث معك عن الوطن الذي لم تكن تعلم عنه شيئاً في صغرها، واجتهدت هي لتعرف ماهيته، قادها التفكير في البداية أنه كيس النايلون المتين الذي يمنع وصول الوحل إلى داخل أحذيتنا :
"كنتُ صغيرة جدّا. لم يجتهد أحدٌ من حولي كي يحدّثني عن الوطن.
اعتقدت لشتاءين متتالييْن أنّ الوطن هو كيس النايلون المتين
الذي يصمد حول أحذيتنا يوما كاملا دون أن ينفذ منه وحل الطريق.
الشتاء كان الغربة عن الوطن.
الحذاء المتين كان الوطن البديل."
لكنها اكتشفت بعد ذلك أن الأمر أكبر من ذلك، إنه وطنٌ مشلولٌ ، وطنٌ ميتٌ، يحتاج أن يموت ويبعث من جديدٍ:
"هذا الوطن يا سيّدي يحتاجُ قدحا من حليب أمّ فاسدٍ وهي فاضلة جدّا.
وصعلوكا يروي قصّة الذئب الذي أكلته ليلى وبصقت فروته.
هو يخجلُ أن يقولَ لكَ حاجتَه. لكَ أنْ تُخمّنَ أيّها التعِس.
هذا الوطنُ يتوسّلُ قيامةً وبعثا وقيامةً ولا بعث.
هذا الوطن... هل أقول لك فعلا ما أعرفه؟
هو لا يحتاجُ سوى أن يموت ويُبعث ميّتا من جديد.
وأنتِ سيّدتي أيضا لكِ أنْ تُخمّني."
تسألها هل الطريق طويل إلى النهر ، تجيب لم يبق غير القليل (النهر الذي تحفظ تفاصيله وتدعي أنه لا يعنيها) تقول:
 " لا يعنيني ذاك النهر المُحاذي لقريتي الميّتة هناك على سفح جبل الكرمل.
 لا يعنيني الشارع الذي كان يفصل بين أكواخنا وبين النهر.
 لا تعنيني القرية اليهوديّة التي وراء النهر (كنت أكره أضواءها الساطعة ليلا).
لا يعنيني منسوب المياه فيه ولا يعنيني اسمه الذي لم أحفظه يوما. "
وعندما تسألها ما الذي يعنيه النهر لها ستخبرك أنه :
"نقطعه نصيرُ هناك.
نقطعه مرّة أخرى نصيرُ هنا.
كلّهم يرتاحون لل (هنا) وأنا أحلم بال (هناك).
هو نهرٌ لا يحتملُ الأحلام الخبيثة أو التأويلات النقديّة. "
ها قد وصلنا "ترقص فرحا" وتقول حلمت كثيراً بأن لو أتيحت لي فرصة وسرقت قارباً، سأذهب أنا وخالتي الصغرى لمدة يوم واحد فقط خارج هذا كله ... وتكمل أقول لو :
" لا بدّ من قارب خشبيّ فارغ هناك عند حافّته.
ولو كانت أعين الرجال في عائلتي مغمضة في النهار. أقول لو.
 كنت حتما سأحزم بعض الأحلام والأكاذيب وأقنع خالتي الصغرى بأنّ النهر ليس بحرا ونسرق القارب ليوم واحد فقط.
كانت هي ستتولّى موضوع الخوف وأنا سأتولّى تسيير القارب وتأليف الحجج بعد العودة."
شيخة في ديوانها تجمع النساء في القصائد لتستأنس بهم، ليدعموها بالمقابل تقويهم هي، وتحب قريتها البدويّة، وكلما حلقت خارج الفصول تعود مرة ثانية، إنه حبّ الوطن وربّما لعنته التي تطاردنا حتى باب القبر.
هذه كانت رحلة قصيرة جداً في الجزء الأول من الديوان الذي يتحدث عن المكان وهناك أجزاء أخرى في الديوان  هي:
-    نصوص النساء (نساء العائلة ، مغنيات الأعراس ، العرافة ، زوجة المحارب ، زوجة الراعي ، زوجة الحارس ، راقصة المعبد ، راعية القطط ، خبّازة ، بائعة اللبن) بالإضافة لنصوص تصف أحوال النساء ( امرأة مشوشة ، امرأة في الثمانين ، امرأة تغني ، امرأة مذبوحة ، امرأة تبكي).
-    نصوص للكتابة  (نصوص متأخرة ، نصوص حجارة ، نصوص غير معقدة) وتتحدث كذلك عن أزمة النص ونصوص الذات ونصوص أخرى.
-    نصوص العائلة  تتحدث عن (مأساة الكذب ، أبي في الحلم ، أمّي والوطن ، أمّي ولوركا، أمّي والرّاحلون ، عين جدّي)
يحتاج كل جزء من هذه الأجزاء دراسة مفصلة وقراءة خاصة لمَا لهم من أهمية  تاريخية وشعرية كبيرة.
*الديوان  صادر عن الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن 2016، ويقع في 128 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافه باسم محمد صباغ، ويحتوي على 84 نصاً نثرياً، توزعت على خمسة أجزاء نصوص المكان، ونصوص النساء، ونصوص الكتابة، ونصوص الذات، ونصوص العائلة.

*شيخة حسين حليوى شاعرة وقاصة فلسطينية صدر لها أربعة كُتب:
- خارج الفصول تعلّمت الطيران" – شعر – دار الأهليّة 2015
- سيّدات العتمة" – مجموعة قصصيّة – دار فضاءات 2015
- النوافذ كُتب رديئة" – مجموعة قصصيّة – دار الأهليّة 2016
- الطلبيّة C345" – مجموعة قصصيّة – دار المتوسّط 2018
*المصادر:
- ديوان " خارج الفصول تعلّمت الطّيران " لشيخة حليوى 2016م
- مقال (  " برافو" مرّ من قريتي ) لشيخة حليوى منشور بتاريخ 26 – 7 – 2013م بجريدة القدس العربي الالكترونية، وعرب 48
- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك