كائنات أمين دراوشة السردية تسكن في ظلّ غيمة (2- 2)


أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

إحدى صعوبات كتابة النصوص التي تتسم بالقصر الشديد هي أنّ أي خطأ يبدو ناشزاً، في حين يمكن للنصوص الطويلة أن تخفي بعض العيوب، فوصف شخصية ما بالجمال يبدو مألوفاً في بداية رواية، أما عندما تكون بصدد قصة قصيرة جداً ينهض سؤال هو: ما أهمية تلك الصفة في تطوير الحكاية، وهل الجمال جزء لازم لوضوحها. مثل هذا الأمر يجعلنا نتوقف عند قصة "سوء تفاهم"، حيث تلحق صفة الجمال البارع بالصيدلانية دون داع سردي: "يدخل إلى الصيدلية كالطاووس، يبتسم للصيدلانية بارعة الجمال"، ص5، إذ يقتصر دورها على ارتكابها خطأ لا علاقة له بجمالها. غير أن الكاتب يفيد في بناء الشخصيات من الحوار أكثر من الوصف، على نحو ما نجد في قصة "نصف الكأس"، حيث تعبّر الشخصية النزقة/ البطل عن ذلك النزق، من خلال حوار سريع وحاد ومباشر، ص ص9ـ10.
وينجح الأستاذ أمين دراوشة في الاستفادة من نماذج الشخصيات القارّة في السرد على نحو كبير، إذ يستثمر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نموذجين شائعين من نماذج المرأة هما: المرأة ذات القلب الذهبي والمرأة المتمردة، ونموذجاً ثالثاً شائعاً من نماذج الرجل هو العاجز المستبدّ.
في قصة "قلب من ذهب" ص ص45ـ46، يطرح القاص نموذج المرأة المكروهة، سيئة السمعة، التي يبتعد عنها الجميع، ليكشف من ثمّ أنها ذات قلب ذهبي، تساعد البطل حين يتخلّى عنه الجميع، وهذا النموذج الذي يتقاطع مع المومس الفاضلة يعطي القصة زخماً دلالياً معتمداً على كونه نموذجاً قارّاً في الذهن. وإن ينس المرء فإنه لا ينسى شخصية نفيسة في رواية "بداية ونهاية"، وسونيا في رواية "الجريمة والعقاب"، ومرغريت جوتييه في رواية "غادة الكاميليا"؛ إذ تتمتع مثل هذه الشخصيات بكثافة سيكولوجية كبيرة، وهي مستعدة أن تضحي بأحلامها من أجل الآخرين.
في قصة "زهرة الرمان" يلتقي نموذجان شائعان هما نموذج المراة المتمردة التي "قفزت عن الكنبة بخفة قطة، تناولت الزجاجة وكسرتها بطرف السرير، وزرعت ما تبقى منها بين فخذيه"، ص14، وذلك لتحمي نفسها من اغتصابٍ سينالها من طرف الرجل المتنفّذ، ونموذج الرجل المتنفذ الذي صار عاجزاً، وهو نموذج يحيل على القيادات العاجزة عن فعل أي شيء، على نحو شخصية شهيرة في الرواية الفلسطينية، هي شخصية "أبي خيزران" في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني؛ حيث تقوم السلطة العاقرة بكل الموبقات، وتعجز عن تحقيق ولادة جديدة لهذا الشعب.
كما يفيد القاص من تشخيص الحيوانات في قصص أشرنا إلى بعضها، ونشير هنا بشكل خاص إلى قصة بعنوان "حمار"، يتم الانتقال من مجتمع لا يقدّر حتى حقوق الإنسان إلى مجتمع يحتفي بالحيوان، وتقوم النهاية فيها على التعارض في مواصفات المكان بين ما كان عليه الحمار، وما صار إليه، من خلال استثمار دلالتي الماضي والمضارع.
"أنا الآن في أحد المشافي.
رأيت جهنم وأصحابها.
أرى الجنة وأحباءها"، ص ص36ـ37.
* * * * *
بصدد اللغة السردية في مجموعة "وجه في ظل غيمة" تمكن إثارة مجموعة من الملاحظات، حول معيارية اللغة، وجماليتها، ومناسبتها للموقف السردي. فلغة هذه المجموعة تترجح بين السردية التي تطوّر السرد "الحاجز"، والإنشائية التي تعوّقه "الشيخ الطاعن في المنى"، كما تترجح بين الإخبارية المباشرة والتصويرية التي تعطي السرد بعده الجمالي. ولعلنا نشير هنا إلى ظاهرة بارزة في سرده، وهي طغيان اللغة الذهنية والخطابية في عدد من القصص، حيث تُثقل اللغة بالفكر على نحو لافت، كما نجد في السياقات السردية التالية:
•    "أيها البلهاء المتوهمون السّاعون وراء السراب، الغارقون في لجات فوقها لجات. آن الآوان إلى السعي، والسعي، ثم السعي، من أجل الوصول إلى المبتغى، إلى نفس مطمئنة، تهزم الخواء"، ص11.
•    ـ "ومن أين تأتي القوة؟
قال الفتى:
من أمنا، من المعرفة، من العلم، من الحب، من العمل، من الشعور المتجدد بالاندهاش وسط هذا الوادي المليء بكل أنواع الزهور والشجر والماء والحيوانات الغريبة والحشرات المضيئة"، ص ص15ـ16.
•    لم تنفع فلسفة ماركس، ولا أمير "ميكافيلي"، ولا نفعية "بنتام"... ولا حتى مثالية "هيجل"، ص103.
ومشكلة هذه اللغة تتفاقم حين تصبغ بصبغتها قصة كاملة، بدلاً من سياق فرعي، وعندها تغدو القصة فكرةً تم إلباسها لباساً فنياً، لا ثوباً فنياً ولد مع الفكرة، بمعنى أنّ القصة تصبح مقدودة على قد الفكرة، على نحو ما نجد في قصة "الحصان"، ص ص10ـ 11، ويصدق الأمر نفسه على قصة "قوة إلهية" ص ص56ـ67،  التي تشبه مناظرة فكرية بين شيخ ومجنون، وفيها من اللغة الذهنية التنظيرية الشيء الكثير.
وإذا كانت اللغة الذهنية تصبغ السرد بطابع الفكرة، واللغة الإنشائية تعوّق مسيرة الحكاية، فإنّ ثمة روافع لغوية نجح القاص في استخدامها، حيث استخدم الشعبي، إلى حد ما، والأسطوري، على نطاق واسع، من أجل تثبيت دلالة قصصه؛ فقد أفاد دراوشة من الأسطورة في قصة "أخيل"، ص101، وقصة "هوس الجمال"، ص ص113ـ114، وقصة "إزيس" التي يفيد فيها من رمز إزيس الآلهة المصرية التي ترشد الموتى إلى الدار الآخرة، أو تعيدهم إلى الحياة؛ إذ يخلق "إزيس" فلسطينية تلملم أجزاء طفلها:
"كان سهلا على أعدائه أن يقطعوا جسده إلى نتف صغيرة ويدفنوها في عشرات الأمكنة، وعلى مساحات شاسعة.
لم تفكر لحظة بجسامة الأعباء ولا بغبار السفر، انطلقت وطفلها في رحلة طويلة للملمة أجزاءه.
نجحت أخيرا في المهمة، واطمأنت روحه، ولم يبق إلا أن يكمل الطفل المشوار"، ص69.
فإذا تحدثنا عن استثمار أمين دراوشة للإيقاع القصصي أمكننا أن نتحدث عن إيقاعات لغوية تفيد بحدود ضيقة من القرآن الكريم، على نحو ما نجد في قصة "الطاعن في المنى"؛ حيث يستحضر الشيخ الآية القرآنية؛ لينبي عليها رؤية جديدة، فهو يقول لمجنون القرية "ولسوف يعطيك ربّك فتطغى"، ص12.
كما يفيد القاص من إيقاع الكلمة في قصة "مدرّس"، ص ص48ـ49؛ إذ يكرر كلمة "الجوع" على نحو لافت، بل على نحو مربك للغة من خلال استعراض وجهات نظر الطلاب حول تعريف هذه الكلمة، وربما كان عليه الاستغناء عن بعض هذه الكثرة. أما على صعيد تكرار التركيب للإفادة من إيقاعه، فقد كان دراوشة يعتمد على تكرار بعض الأنساق اللغوية، أو على الإشارة على تكرارها، فهو يشير في قصة "الأول" إلى تكرار غير لفظي، ولكنه مؤشر إليه: "يا جحش، ستشرب كأس حسرتك مرتين. (وأعاد الكلمة الأخيرة ثلاث مرات)"، ص53. بينما يكرر بنفسه تركيباً آخر في القصة الأخيرة من المجموعة التي تحتلّ عنوان "وقت متاح"؛ إذ يقول في آخرها:
ما زال هناك وقت متاح.
ما زال هناك وقت متاح.
ما زال هناك وقت متاح"، ص118.
ويفيد القاص أيضاً من التقاطب المكاني الذي يحدثه استخدام أسماء الإشارة في دلالتي البعيد والقريب؛ ففي قصة "همس"، ص82، يتم استثمار الـ "هنا" والـ "هناك" على نحو متميز.
ويمكننا أخيراً، ما دمنا نتحدث عن اللغة والإيقاع، أن نعتب على القاص الذي تكثر في مجموعته الأخطاء اللغوية المعيارية التي لا بد أن يتخلّص منها في المستقبل؛ لأن ما يقدّمه من أفكار جميل ولافت، حتى ليكاد يضاهي جمال سندريلا، ولا يليق بسندريلا طبعاً أن تخرج إلينا بثوبها الممزق.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أمين خالد درواشة: وجه في ظل غيمة، قصص قصيرة، دار الكلمة للنشر والتوزيع، ِغزة، ط1، 2019.

 

تعليق عبر الفيس بوك