كائنات أمين دراوشة السردية تسكن في ظلّ غيمة (1- 2)


أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات
صدرت في غزّة مؤخراً مجموعة قصصية للكاتب الفلسطيني أمين درواشة، بعنوان "وجه في ظل غيمة"، وهي مجموعة تحتفل وتحفل بالموضوعات الوطنية والاجتماعية والإنسانية، وتتطلع إلى وطن حر ينتفي فيه الاستغلال والظلم، وينتمي فيه إلى عالم الخير والحق والجمال.
الغلاف سفينة صغيرة تسير رخية هادئة، ويبدو خلفها أفق متماوج الألوان، وكأن هدوء  سطح البحر الذي يظهر في اللوحة هو هدوء ما قبل العاصفة، بينما تشكّل أمواج الألوان غيوماً وحلماً بوطن حر، تسقيه تلك الغيوم من تضحيات شهداء يسكنونها.
من فلسطين تبتدئ القصص ولا تنتهي، ومن غزة بالتحديد، لأنّ كل ما حولك يذكرك بتفردّك؛ فأنت يمكن أن تنام وتستيقظ، وتوصل أبناءك للمدرسة، وتذهب للعمل، وترافق الجنازات، وتقرأ نيتشه وكامو، ولكن عليك أن تتذكر أنك فلسطيني، "وأنك ما زلت لا تستطيع التحرك أكثر من بضعة أمتار؛ لذا جهز أوراقك وانتظر أوامر الجندي"، كما يقول في قصة "دون تذكير"، ص26.
ولأن الوطن أكبر من غزة تنصرف جغرافيا القصص إلى مرج ابن عامر وشاطئ حيفا وقمة الكرمل، وتبقى الروح سجينة الحصار الذي فرضه الإخوة والأعداء؛ لذلك لا بد لها من البحث عن مصدر قوتها. في قصة "الحصان" يتم البحث عن سر القوة، ويستثمر الكاتب رمز الحصان الذي يشير في الفنون الكتابية والتصويرية إلى الثورة والنهوض، والصعود نحو الشمس والتحرر. وهنا يؤكّد الكاتب عدم جدوى انتظار المحرِّر من الخارج؛ لأن أهل فلسطين أولى بتحريرها، وحصانهم كامن في نفوسهم مثلما هو كامن في سفوح الجليل، وأمواج بحر عكا؛ حيث يقول الشيخ ذو اللحية الطويلة البيضاء للباحثين عن الحصان ما يلي: "يمكن أن تجدوه، أغمضوا أعينكم، وافتحوا قلوبكم على وسعها، وسترونه أبيض كالثلج، عذباً كأشعار درويش، مقداماً، ومندفعاً، وجامحاً كشاب لم يعرف غير هذه الأرض البكر"، ص11.
ويتخذ دراوشة من السخرية أسلوباً لعرض مادته السردية، فالمحتفلون يشربون "السفن أب"؛ ليتيحوا للمحلل الاستراتيجي اللامع أن يستنتج أن النكبة "ليس لها أب واحدا بل لها أكثر من أب"، ص60، والسرد يعيد في قصة "حبتان"، ص21، العقم الفردي إلى عقم الأمة، في سخرية مرة، كما يشحذ القاص هذا السرد؛ ليعرّي مجتمعاً ذكورياً تحكمه أغلال التقاليد التي ترى في المرأة "بقرة"، حتى ولو كانت عروسة في صباح عرسها: "قومي احلبي البقرة، يا بقرة!"، ص72. هذا المجتمع ذاته، وانطلاقاً من ذكوريته أيضاً، يوظّف في قصة "صحيح ولكن"، ص ص21ـ22، امرأة تتفوق على آلاف الرجال والنساء، من غير أن تتقدم لامتحان المسابقة؛ لأنها تمتلك مواهب لا تغفل على القارئ.
وحين يختلط الاجتماعي بالفساد سياسي يصبح التراتب الطبقي نتيجة من نتائج ذلك الفساد؛ ففي قصة "نصف الكأس"، ص ص9ـ10، يمنح الكاتب نصه بُعداً اجتماعياً طبقياً؛ حيث يمتص البعوض دم الشخصية الرئيسة. وحين تنصحه حبيبته أن ينظر في النصف المليء من الكأس يكسره، ويجد في الحب والبحر ملاذه الأخير، وفي قصة "زهرة الرّمان" ص ص13ـ 14، يقدم أمين دراوشة رؤية اجتماعية تتخذ طابعاً سياسياً؛ حيث يزيّن التراتب الاجتماعي والسياسي والطبقي لذوي النفوذ أن يغتصبوا ما طاب لهم مثنى وثُلاث ورُباع.
وعلى الرغم من القهر الاجتماعي الذي يختلط بالسياسي أحياناً، تظهر إرهاصات إنسانية أقوى من أن يحجبها قناع الخضوع للسائد والعرف، ويمكن أن نشير هنا إلى قصة "أزهار"؛ حيث يحرم الأب (بسلطة السائد، لا بسلطته الشخصية) ابنته من توزيع ثروته، ولكنه بعد فوات الأوان يذرف دموعاً لا نخالها إلا دموع الندم:
"حاول عبثاً أن يمسحها بيديه، الأب الصلب والقاسي، الذي هزم كل أعدائه وخصومه الأشداء. حاول أن يكون متماسكاً وقوياً، خانته دموعه التي هطلت بغزارة، سقطت دمعة بين عينيها، فتحتهما، نظرت إليه بحنان، ابتسمت، شدّت على يده. همست له:
- أحبك.
وصمتت إلى الأبد".
وغنيٌّ عن القول هنا أن الذين عانوا أصناف القهر الاجتماعي، وتبعات الفساد السياسي قد عانوا أيضاً ظلماً أشدّ مضاضة من قبل عدو غاشم يحاصر ويقصف ويتفنن في تعذيب الفلسطينيين، كما يتجسّد في عدد من قصص المجموعة.
* * * * * *
في البنية الحكائية يقترح أمين دراوشة علينا أشكالاً متمايزة، تسرد حيناً قصصاً بالغة القصر، وتطول حيناً، وتتفرع أحداثها، لتنتمي إلى القصة القصيرة، أو إلى اللوحة القصصية، أو إلى الخاطرة القصصية التي تكاد تخرج من جنس السرد.
نقرأ في المجموعة قصصاً، تخلص إخلاصاً شديداً لجنس القصة القصيرة جداً، مثل "سوء تفاهم"، ص 5ـ 6 التي تحافظ على التكثيف وفعلية الجملة والمفارقة، ووحدة الموضوع وتفريد الشخصية، وما إلى ذلك. ويشار هنا إلى أن ثمة قصصاً قصيرة جداً بلغت مبلغاً جيداً من النجاح، بسبب نجاحها في التكثيف وتوجيه الحكاية بشكل سهمي مباشر، إضافة إلى وضوح الرؤية، من مثل القصص التالية:
1 ـ موت مزهر:
الطفل الذي سقط من شدة البرد والصقيع وقلة الطعام. وجد ضابطُ الإسعاف في قبضة يده بضعة نجوم مزهرة"، ص84
2 ـ طالبة:
انطلقت الطفلة إلى مدرستها باكرا، خوفا أن تتأخر على الحاجز العسكري، لكنها لم تصل إلى المدرسة، ولم تعد إلى البيت أيضا"، ص86.
3 ـ ثوب:
لم يستطع محو النقطة السوداء في ثوبه اﻷبيض، فتبرع به لجامع القمامة، الذي ما أن لبس الثوب حتى اختفت النقطة السوداء، وتحررت الزهرة من أسر القذارة"، ص91.
4 ـ جنازة شاعر:
لم يحضر جنازته سوى بضعة رجال ونساء. فالغيوم بكته بغزارة، ولم تسمح للكاميرات بالتصوير"، ص105.
على أنَّ الأمور لا تسير دائماً على هذا المستوى من الجودة والإتقان في المجموعة كلها؛ فبعض القصص القصيرة جدا والقصيرة على حد سواء يعاني من مشاكل على صعيد التكنيك؛ إذ نقرأ نصوصاً قليلة يغلب عليها طابع أدب الأطفال، على الرغم من أن المجموعة ليست موجهة لهم. إذ من الممكن أن نقرأ سياقاً قصصياً ختامياً يقول فيه دراوشة:
"قال الأب: نعم يا أطفالي، القوة تجيء مع الإيمان بالغيوم المحملة بالخير لكل الكائنات، مع الاندهاش المباغت الذي ينقلك من العادي إلى السحري من الماء الواسن إلى الماء الفرات"، ص17.
فالنهاية هنا ـ رغم ارتباك صياغتها ـ تصرّح بالموعظة، ولا تفترض حسن الظن بالمتلقي القادر على استخلاصها. وينحو القاص في قصة "الغراب" منحى مشابهاً، وهي قصة تؤسس من جديد لصورة "الغراب المعلّم" القرآنية، وتحيل على نوع مألوف من السرد الذي طالعاناه في "كليلة ودمنة"، ضمن حكاية تحثّ على طلب الرزق، وتصّرح في النهاية بموعظتها التي تلغي دور القارئ: "أنا أتنقل، وأرتحل، أسافر بحثاً عن رزقي وهنائي، وأنتم لا تعرفون غير الشكوى، ولا تحركون أجسادكم المترهلة، ولا عقولك الصدئة"، ص20.
وثمة ملاحظة أخرى تكمن في تحوّل الحكاية في بعض القصص إلى حالة، وهذه حالة مربكة للسرد، إذ إن نمو الحكاية المعول عليه في إثارة انتباه القارئ يخبو إلى أقصى مدى. ونشير هنا إلى أن القاص نجح في بعض الأحيان بتجاوز فخ هذه الحالة غير الحكائية، عبر توجيهها المفاجئ نحو ذروة الحدث الدرامي، أو عبر الاعتماد على أثر التعارضات المضمونية في القارئ. وتجلية للأمر نشير إلى قصة "طفل في الحقل" التي تبدأ على نحو غير سردي، وتنتهي، كما يليق بحكاية يراد منها أن تزرع الألم في النفوس:
"طفل جميل يطارد الفراش، والده يحرث الأرض، وأمه تنثر البذور.
الأخوة على مقاعد الدراسة، يجدون الوقت للعب ومطاردة الجنادب والسحالي والحراذين في الحقل.
طائرة دون طيار أبادت الحقل وكل من فيه"، ص31.
وفي قصة "ثلج" ص ص18ـ19، حالة أخرى غير سردية، كان يمكن أن تقيّد السرد؛ لولا اعتمادها على التعارض القائم بين صورتين متضادتين: إنها تؤسس للمألوف حتى تنتقل لغير المألوف، فالثلج يجلب السعادة والفرح، ويجمع الأسرة أمام التلفاز، والأطعمة اللذيذة، أو في الحارة؛ حيث يتقاذفه الناس بسعادة. غير أن هذا الأليف لا يعني انتهاء اللوحة، بل ثمة وجه آخر حزين يجسده الثلج؛ فثمة عجوز التهمها الثلج، وامرأة لا تجد ما تسدّ به رمق أبنائها، وعشاق ينتظرون الأحلام.
غير أن بعض القصص تستقر فيها الحالة السردية، بحيث يتوقف الحدث عن النمو، على نحو ما نجد في قصة "الطاعن في المنى"، حيث يكاد السرد يقتصر على حديث الشيخ للمجنون؛ إذ يشكو المجنون للشيخ (الذي يراه المجنون مجنوناً)، ضياع نصيبه في الدنيا، فيمسك الشيخ دفة الحوار حتى لا يكاد يتركها، متوقعاً للمجنون الجاه والسلطان، والنفوذ والجبروت، دون أن تنمو الحكاية نفسها، ودون أن يوقف تدفّقَ الشيخِ اعتراضُ المجنون: "ولكنك لم تجب على سؤالي بعد، أيها الشيخ الطاعن في المنى"، ص13.
وإذا كانت قصة "الطاعن في المنى" تحتوي خيطاً سردياً هشاً فـ"العشق الأبدي"، ص ص17ـ18، ليس فيها سوى لغة إنشائية تؤسس لخاطرة، ولا تؤسس لسرد. وينطبق الحكم ذاته على قصة "الحقيقة"، ص ص22ـ23، وقصة "عطر" ص ص23ـ24، وقصة "قلب الهاوية"، ص ص26ـ27، وغيرها.
(يتبع)

 

تعليق عبر الفيس بوك