كافكا - الوَقّاد - البراغماتية


يحيى السداوي | العراق

قصة يربط فيها كافكا بين نجاح العمل الحقيقي الواقعي وبين التطبيق النظري، بأعتباره المعيار الأساس لتقييم الواقع الإنساني، من خلال البحث في الطبقية الظاهرة للعيان في المجتمعات، وهي فلسفة سياسية تتخذ المذهب العملي الذي يقوم على الذرائع و العملانية، حيث يتم إستخراج النظرية من التطبيق العملي الفعلي، إذ نشأت هذه المدرسة الفلسفية البراغماتية في أمريكا في العام 1878 ، وإنتشرت منها إلى أوربا حيث إعتنقها الكثير من النبلاء ذريعة لتمسكهم بمناصبهم في المجتمع.
حاكها لنا كافكا بقصته (الوَقّاد) ، وهي الفصل الأول من رواية (المفقود)، والتي أصبحت فيما بعد جزءاً من كتابه (الأبناء)، بدأ بكتابتها ليلة27 ايلول وأنهاها بستة ليالي 1912، ومن الجدير بالذكر أنه كتبها بعد قصة (الحكم) بخمسة أيام وكان عدد صفحاتها (47) كما يقول (ماكس برود) ناشره إذ كان في حالة إلهام يطوف بين دفاتره وبطله (كارل) الصغير المطرود من العائلة إلى أمريكا على متن سفينة كانت تمثل العالم لديه، وتلك التراتبية في المقامات والأمكنة والعلاقات والعمل والتصرف والكلام، وكيف تحول هذا المجهول كارل من فتى بائس يائس الى نبيل عندما إحتضنه خاله (ياكُوب)، مبتعداً في القارب عن السفينة مقترباً من المرفأ حيث لا قبطانٌ عتيد ولاماكناتٌ تدوي ولاحركةٌ من الوَقّاد.
ناقش كافكا الخوف في بطله كارل على ظهر السفينة، بدقة شرحه له وهو في غرفة الوَقّاد، المطلة على غرفة المحركات لسببين مهمين، الأول إن الوقاد يحمل عادات البحارة المكتسبة من مجمل السفن ألتي عمل عليها (كنت عاملاً أروق لقباطنة السفن ألتي أعمل عليها… )(1)، وممكن بحركة ما يجهز على كارل ويقتله أو يوقع به مكروهاً ما، والثاني إنها أول رحلة بحرية يقوم بها الفتى الصغير كارل، وهو غير مؤهل للقيام بها، إذ كان خوفه من الآخرين على السفينة أكبر كما هو خوفه من مجهول الأقدار، حيث جعله يترك حقيبته عند أحد المسافرين، كما تركه وآلداه خوفاً من الفضيحة وللتخلص من المحكمة، فتركاه في حداثة سنه وبداية رحلته، وهو يبحث عن الأمان والعمل على ظهر الحياة، الذي يمثل السفينه وهو المكان، وفي عرض البحر وهو الزمن، الذي يرميه كلما مرت لحظة في فم المستقبل المجهول، هكذا فتح كافكا بابه الثاني في هذه القصة (الوَقّاد)، إلى عالمه الجديد في إستقصاء المستقبل، من خلال الخوف من الفضيحة داخل المجتمع بالنسبة للعائلة، والخوف من المجتمع نفسه على السفينة بالنسبة لكارل بطله، ألذي جعله سبباً للنقاش يوجه به دفة القصة، وهو ليس بطلاً حقيقياً في داخله وظاهره، وقد طابقت صورته مكنوناته الداخلية المهزوزة، مما جعل كارل الفتى الصغير يتحرر، من قيود الإزدواجية والكذب إلى الصدق، الصدق في شخصية الفرد، وهذا ماتستلطفه الفطرة البشرية وينشده الإنسان، في كل مكان وزمان.
كما إن القصة إشارت بهذا المعيار البؤري الدائر حول بطلها كارل، إلى نزوح نفس الإنسان وذواته نحو الظلمانية في التعامل وحل المشاكل، بطرق التهجير والإقصاء والتسلط على الآخرين من الأقرباء والبعيدين، فبدلاً من أن تقوم العائلة بتزوج الخادمة من كارل، وإنتشالها من واقعها وإنتشاله من هوة مراهقته الفتية الجامحة، وخوفاً من التساق السمعة والتهمة وإجراء المحاكمة ودفع مستحقات النفقة للخادمة، وبسبب ان عمره ستة عشر عاماً لم يبلغ بعد وهو غير قادر على تحمل المسؤولية، تم إبعادهما عن بعضهما وإرسال كارل الى خاله ياكُوب، في أمريكا ببداية القصة، وهو يتأرجح على ظهر السفينة مع القدر.
إن الظلمة والنور شقان إساسيان في داخل الإنسان وذاته، يتصارعان متى ما وضعت النفس في إختبار، أو إختيار حقيقي كبيراً كان إم صغيراً، وإن مشاهدات كارل، العينية لذلك الوَقّاد العجوز العاجز، عن الدفاع عن حقه ومنصبه، الذي كان يشغله على ظهر السفينة، ما هو إلا صورة صغيرة من الإستلاب في الحياة والتلاشي فيها(2)، لنشوء عوامل أخرى في محيطه أقوى منه، ومنها تجديد القوى العاملة في الحياة نحو الأحدث والأسرع إستجابة، وإستفحال صفة الظهور في المناصب القيادية المؤثرة في المجتمع، وتفشي الرشوة بين العاملين في كافة المؤسسات والمتنفذين عليها وأولهم كبير أمناء الصندوق، وكذلك تعامل القبطان مع العاملين وغيرهم من المتنفذين في التجارة والسلطة كخاله السيناتور (ياكُوب)، والعناية الخاصة التي حظي بها بعد ما علم الجميع إنه من النبلاء، وتغير نظرة مجتمع السفينه رمزاً للمجتمع على الأرض، نحوه بالتعامل والصورة إلى أقصى درجات الإحترام، مما يؤدي إلى فساد البشرية بظهور البرجوازية(3) في المجتمع، وألتي تحيد بالأفراد عن جادة المساواة، وهي أيضاً من أبرز علامات البراغماتية والتسلط الطبقي، والتي تنمي داخل النفس البشرية معطيات التعالي على الآخرين، مما يسبب انقسام وتفكك المجتمع إلى طبقات، ولهذا يجد القارئ بهذه القصة انتقاداً شديداً، لما يعانيه المجتمع من أمراض نفسية، وطرح كل هذه المشاكل على طاولة النقاش، بشكل مفتوح وحداثوي، مع عدم وصول بطلها (كارل)، وخاله (ياكُوب)في نهاية القصة الى اليابسه بعد.
.................................
الهوامش: -
(1) فرانز كافكا. الآثار الكاملة. دار الحصاد. سوريا. الجزء الأول. ترجمة إبراهيم وطفي لسنة 2003. صفحة 247.
(2) الإستلاب أو الاغتراب، هي نظرية (جوهر الأنواع) لكارل ماركس، وصفها لودفيغ فيورباخ بكتاب (جوهر المسيحية)، الذي ينص على وجود إله خارق للطبيعة، أدى الى إغتراب الخصائص الطبيعية للإنسان في الأنا وذاتها، بأنها نتيجة للعيش في مجتمع طبقي، يستلب الأنسان من ذاته كونه جزءاً من الطبقية الإجتماعية، فيكون الفرد مغترباً عن نفسه وكيانه وعاجز غير منتج في مجتمعه.
(3) علم الاجتماع،من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، اعلام وتواريخ وتيارات، تحرير، فيليب كابان ، جان فرانسوا دورتيه، ترجمة، الدكتور إياس حسن، الطبعة الاولى لسنة 2010، دار الفرقد. نظرية الطبقات الإجتماعية صفحة 38.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك