"الحياة من دوني" لعائشة البصري.. رواية الجسد في سوق الحرب (2 - 3)


أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

ثالثاً ـ شهرزادان لحكاية واحدة:
في هذه الرّواية ثمة ثلاث ساردات، تجترحهنّ عائشة البصري في ثوب حبكوي رائق: ساردة خارجية تشتغل على كتاب حول مقابر العالم، وتهتم بمصير الإنسان بعد الموت، وتبحث عن الطرق الغريبة في دفن الجثث وإحراقها وتعليقها على أغصان الأشجار، ويغريها شراء صندوق قديم من محلّ صينيّ في الدار البيضاء، فتجد فيه مقصاً وإبراً ومشغولات يدوية، وأشياء أخر. على أنّ أهم ما يلفت نظرها "كتيب" بعنوان "قوتشين معزوفة حرب منسية"، و"جرّة خزفية"، كانت ضمن معروضات المحلّ، وهذا الخيار التمهيدي اللافت أتاح للكاتبة أن تلعب لعبتها الفنية الباهرة، فتسلم قياد السرد إلى ساردتين داخليتين: الساردة الأولى صاحبة رماد الجرّة: جين مي التي عاشت ويلات الحرب اليابانية الصينية، وكان أهلها يدلعونها باسم (أوركيديا فبراير)، والساردة الثانية أختها قوتشين التي حكت ذكرياتٍ حررتها صحفيّة اسمها "كاترين لي" في الكتيب المذكور، وتحدثت فيها رحلتها من الصين إلى فيتنام، ثم إلى المغرب، مروراً بفرنسا.
براعة الكاتبة هنا تكمن في أنها لم تكتفِ باستخدام المخطوط سارداً، على نحو ما رأينا عند أمبرتو إيكو في "اسم الوردة"، ومُقَلِّده يوسف زيدان في "عزازيل"، بل أضافت سارداً آخر هو "ساكنة الجرة"؛ لتنشئ سرداً آخر يتوازى مع الأوّل حيناً، ويتقاطع حيناً آخر، ويبني حكاية متكاملة، وغير متعاقبة زمنياً، عن الويلات التي تعاني منها المرأة في حروب تتحدث عن أعداد القتلى والجرحى، وتهمل أعداد المغتصبات اللواتي يحملن عارهن الذي "ارتكبنه" تحت حدّ السيف. وقد أفادت الكاتبة من تجارب فوكنر وكنفاني وأفنان القاسم وغيرهم في اعتماد التشكيل الطباعي للتمييز بين الشخصيات، حيث جعلت الخط المستخدم في سرد جين مي مائلاً لتمييزه عن سرد قوتشين.
وها هي ذي الساردة الخارجية تمهّد لسيدة الجرة من أجل أن تبدأ بسرد الفصل الأول من حياتها عام 1996، قبل أن ترتد في فصول أخرى إلى عقود سابقة:
•    "لمّعْتُ الجَرّةَ بمنديل ناعم تحاشياً للخدوش قبل أن أضعها على المصطبة الرّخامية لمدفأة الصالون. ولأتأكّد من أنّ الصّفقة كانت رابحة فقد نقرتُ عليها بأصابعي لأختبر الرّنين، وهي تقنية تعلّمتها من والدتي؛ لأقيس مدى رهافتها وجودتها، ومدى نقاء الطّين الذي صُنعت منه، فأعادت إليّ النقرات صدى صوت امرأة"، ص18. "
•    "نانجينغ.. صيف 1996
أنا الآن في جرّة من الخزف الصيني الرفيع"، ص19.
وعلى الرغم من أنّ الأختين مولودتان تحت برج واحد (هو برج النمر)، فهما تختلفان بطبائعهما كثيراً؛ إذ لم تستطع أبراج السماء أن ترافقهما؛ لأنّ السماء ذاتها كانت مشغولة بضجيج الطائرات.
* * *
تنطلق جين مي في تعاملها مع المجتمع المحيط بها من كونها البنت الأصغر التي تحتاج الحماية؛ ذلك أنّ قوتشين أكبر منها: "سبقتني إلى العالم بدقيقتين"، ص67، وقد ترتّبت بناء على ذلك الإحساس مجموعة من السلوكيات التي تمنع الصغرى من محاسبة الكبرى، أو من ملاحقتها جهراً، أو من الاعتراض على تصرفاتها. بل تجعلها تطلب الحماية منها: "كنت أهرب من فراشي ليلاً، وأندسُّ بجوار أختي؛ لأحتمي بجسدها النحيل. لم تكن أمّي هي المثال بالنسبة لي كباقي الطفلات، قوتشين كانت أمي بشكل من الأشكال"، ص67.
مثل هذا الضعف الذي تبدّى في شخصيتها، تجسّد طيبةً تبلغ حد السذاجة، وعجزاً عن مواجهة الظروف، وإذعاناً لاغتصاب مفاجئ، وإيماناً بمقدّسات أسلاف، بحثاً عن جدار فكري عقيدي تستند إليه؛ لذلك تعترف أختُها بأنها دخلت من مدخل ضعفها لتحقيق مآربها الصغيرة: "أعترف بأنني استغللت شخصيتها الضعيفة والخائفة لأجل تحقيق أهدافي الصغيرة. كانت تصدّقني بعماء، لا تناقشني، ولا ترتاب في نواياي إلا نادراً"، ص37.
وللسبب نفسه نالت رضى أمّها التي تتفق معها على الانصياع للسائد الاجتماعي والديني؛ لذلك تباركها أمّها:  "تمتمت أمي بوهن وهي تهلوس: أنت الوحيدة في هذه العائلة التي نفخ فيك بوذا بعضاً من طيبته وحكمته، ووهب روحك السكينة"، ص75.
وتستمرّ جين مي على هذه الصفات حتى وفاتها التي شعرت بها أختها، وقدّمتها من خلال سرد بديع، يعيد إلى التوأمين حبل اتصالهما السري. تصف قوتشين إحساسها بوفاة أختها، في يوم من أيام صيف 1986، بقولها: "أصبحتْ لا تغادر أحلامي. في آخر حلم رأيتُها تلملم أقمشة الحرير في حقيبة اللاعودة (...) بينما كانت روحها تصعد أدراج السماء كانت روحي تسحبها إلى أسفل. بعد شدّ وجذب صعدت جين مي إلى الأعلى، بينما تدحرج قلبي إلى حضني باكياً"، ص184.
غير أنّ جين مي بعد الوفاة أصبحت أكثر جرأة بقليل، فصارت تنتفض داخل جرّتها، وصار بإمكانها ألا تحزن على وفاة زوجها، لأن جرح الخيانة كان طريا، وأصبحت قادرة على مواجهة وي جو ، لا يمنعها من ذلك إلا وفاتها: "لو كنتُ على قيد الحياة لواجهتُ وي جو بالحقيقة التي لم يعرفها زوجي، ولا أفراد العائلتين"، ص186.
ومثل هذا السرد وغيره يغري القارئ، ويحيل على جمال لغوي وتخيّلي؛ ذلك أنّ الرماد الذي يسرد يتيح للروائية أن تقدّم لغة لم يعتد عليها القارئ، تقول جين مي بعد عشر سنوات من وفاتها: "متّ منذ أزيد من عشر سنوات، وما زلت حاضرة بين عائلتي، أحيا أفراحهم وأحزانهم، وأحلّ ـ بشكل من الأشكال ـ حتى مشاكلهم التي لا تنتهي. يحدث أن يشير زوجي للجرّة في أحاديثه: قالت جين مي، وفعلت جين مي"، ص20.
* * *
وفي مقابل جين مي المستسلمة الساذجة البسيطة تنهض قوتشين المتمرّدة التي تريد أن تختار قدرها. ها هي ذي تعرّف عن نفسها بقولها: "اسمي قوتشين، امرأة من شرق الصين، عشتُ حربين، وبقدرة الحب أخطاتني حرب ثالثة"، ص27.
لقد أحبّت قوتشين اسمها كثيراً؛ فقد اختارته لها خالتها التي "كانت مغرمة بالرقص والغناء"، ص27، وهو "اسم آلة موسيقية عريقة وراقية لا يعزف عليها سوى عليّة القوم من الأدباء والشعراء والنبلاء. لا يمسّها العازف إلا بعد الاستحمام وإشعال البخور"، ص27. لذلك كان طبيعياً أن تواجه تغيير اسمها في البيئة المغربية، وأن تصرّ على استخدامه من قبل زوجها، بوصف هذا الاسم ملاذها الأخير الذي تهرب إليه من حاضر غربتها: "استبدلوا اسمي بزهرة. وهو ما لم أقبله بتاتاً، فاسمي هو ما تبقّى لي من حياتي السابقة. غضبتُ. تعلل محمد بصعوبة نطق قوتشين بالنسبة لوالديه. لكنني حرّمتُ عليه، هو بالذات، أن يناديني باسم غير اسمي"، ص162.
هذا التحدّي كان لازمة من لوازم شخصيتها، تدفعها إليه كثافة سيكولوجية تمرّدية تملأ كيانها، وتقودها نحو مغامرات متهورة، حتى قبل أن تبلغ العشرين، وتحصل على الهدايا الصغيرة مقابل نزهة صغيرة أو قبلة، وعلى كثير من الشكوكولاتة من جندي ياباني كانت تخطط لقتله مع عشيقها الثائر: "فجأة تسلل شبح من وراء البرج، قفز مباغتاً العسكري، ونحره في رمشة عين، ثم قفز إلى النهر. كل شيء مرّ بصمت، لولا حشرجة خافتة صدرت من القتيل. وبهدوء ولا مبالاة ارتدت قوتشين فستانها، جمعت شعرها بالمشبك العاجي على شكل ذيل حصان، أخذت علبة كاملة من الشوكولاتة من جيب الجثة، ونزلت من أعلى البرج بهدوء"، ص88.
وبسبب تعدد مغامراتها، فقد توقعت أختها أنّ رأسها يفكّر بمغامرة جديدة في أكثر الظروف حلكة وصعوبة، من مثل رحلة الهرب من قرية جسر تشو لانغ إلى نانجينغ: "في تلك اللحظة تمنّيت أن أدخل إلى رأس أختي قوتشين؛ لأعرف ما تفكّر فيه. أكيد أنها بدأت في التخطيط لمشاريعها الجهنمية. لم تكن حزينة ولا خائفة من خطورة الرحلة، كانت عيناها تلمعان في عتمة القعر ببريق المغامرة والإثارة"، ص31.
وإذا كانت قوتشين قد صرّحت في سايغون "جسدي أصبح وطني وعائلتي وديني"، ص107، فإنّ كلمة (أصبح) لا تعبّر تماماً عما آل عليه الحال؛ فقد احتلّ الجسد أهميّة بالغة في حياتها المبكرة؛ إذ إن جين مي تقول عن جسد أختها، قبل أن تخرجا من قرية جسر تشو لانغ : "جسد أختي التوأم قوتشين كان يسكنه شيطان صغير، ظلّ ينمو ويكبر معها"، ص65. وقد أهّلتْ هذا الجسدَ مجموعةٌ من الصفات؛ ليكون كذلك، فهي تختلف عن أختها وأمها وجدّتها، كما يتضح في السياقات التالية:
•    "أنا وأختي جين مي تقاسمنا نفس الماء ونفس الأحلام [كذا في الأصل] في الرحم، لكنّني كنت الأقوى من الولادة، ببنية ضعيفة، لكن روح فائضة وطموحة"، ص36.
•    "والدتي كانت أكثر سخاء في العطايا وحرقاً للبخور، وأصدقنا صلاة وابتهالاً؛ فقد اعتادت الحج إلى هذا المعبد مرة كلّ ربيع؛ لتصلي من أجل الإنجاب. حين أنجبت توأماً أنثى واظبت على العودة من أجل إنجاب ذكر"، ص32.
•    "أنا لم أكن أذهب إلى المعبد إلا مضطرة. كنت أفضّل جولاتي على النهر؛ لأني أدركت منذ وقت مبكّر أنّ الآلهة من اختراع جدّتي"، ص40.
يذكر  هنا أن الحُلم بمستقبل أفضل يشكّل تَكُؤة مهمة استندت إليها قوتشين في محاولة تغيير حياتها؛ وهي تذكرنا على نحو كبير بشخصية (حميدة) في رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، من حيث سعيها إلى الانفتاح على الخارج، فالداخل هو العدو والكبت وفقدان الأمل، أمّا الخارج فهو الفرصة المنتظرة التي لا تملّ انتظارها. وقد عبّرت قوتشين عن حلمها هذا عبر التأكيد على ثيمة الرحيل التي تعدّ واحدة من أهم الثيمات التي تقترحها الشخصية لمستقبلها؛ ويمكن أن نلاحظ ذلك في عدة سياقات سردية، نختار منها السياقين التاليين:
•    "ربّيتُ طموحات صغيرة، كبرتْ وتحوّلتْ إلى أحلام مرتبطة بالواقع، منها الحلم برجل يقع في حبّي، ويأخذني إلى بلاد بعيدة أكثر دفئاً بلا حروب أو اقتتال"، ص70.
•    "حلم البحر والسفينة الذي كنتُ أحدّث به أختي في ليالي الأرق، داخل غرفة ضيقة بلا نافذة، في نانجينغ، ظلّ قائماً في داخلي"، ص126.
ولم تكتف هذه الشخصية بالانكفاء على حلمها، بل نقلته إلى غيرها، وسعت إلى تحقيقه، وها هي ذي جين مي تصرّح برغبة أختها في الرحيل عن طريق الإشارة إلى شغفها بالسفن الراحلة التي تعني مجهولاً مثيراً: "في إحدى هلوساتها الليلية أخبرتني بأنها تحلم ببيت أو حتى غرفة بشرفة تطلّ على ميناء؛ فهي تعشق السّفن الرّاحلة. السفينة القادمة ـ شرحت لي ـ لا إثارة فيها، فالمسافر يصل إلى نهاية الرّحلة كما يصل إلى نهاية الحياة"، ص110.
وإذا كان حلمها قد أخفق في المرة الأولى، بعد هرب تاجر السلاح الفرنسي من الفيتنام، فقد تحقق على يد محمد الشاب المغربي الذي وصل الفيتنام جندياً من الفوج الرابع للمشاة المغاربة في الجيش الفرنسي.
(يتبع).......

 

تعليق عبر الفيس بوك