رابع لفة بعد المطب .. "العنونة وتخطيط المدن"

م. حسن بن سليمان السالمي **

** مهندس تخطيط مدني

 

 

غريبة أن نستدل على وجهتنا وعناوين مكاتبنا وبيوتنا من خلال علامات أو مواقع قد تكون أكثر غرابة في عصر يدخل الثورة الصناعية الرابعة بأوسع أبوابها. مع أساليب عنونة تعود إلى ما قبل ثورتها الأولى. ولولا تدخل الملاح جوجل في مُشاركتنا مواقعنا وحياتنا اليومية لكنا بلا شك في حيرة من أمرنا. نعم، هذا هو حالنا مع موضوع العنونة والرمز البريدي، والذي للأسف لا زال يطارح حالات من المرض المزمن المستعصي. والذي بلا شك له أثر كبير على حياة الناس وتنقلاتهم وتسهيل أمورهم اليومية.

فمن منِّا من لم يعانِ في وصف بيته لضيف أو زائر أو لتوصيل غرض ما، والأمر إن كان الموضوع يتعلق بخدمات الشرطة والإسعاف، وهنا لا بد له من الاستدلال على موقع بيته عن طريق محطة وقود أو مركز أو محل مشهور أو مطب شارع، من غير الانتظار في أماكن قد تكون بعيدة لتسهيل البحث عن موقع العقار. وكأننا في زمن يسبق أيامنا بعقود طويلة. وما يمنع ذلك إلا عدم وجود نظام واضح للعنونة وللرموز الجغرافية للمناطق وحدودها.

للأسف فإننا لا نفهم من العنونة سوى رقم البيت ورقم السكة او اسم الشارع، وجل ما نفهمه من الرمز البريدي مكاتب صناديق البريد لا غير. وهذا هو ما يجعل مسألتنا أكثر محدودية وضعفًا. ولعل ما يزيد الطين بلة إن علمنا عن عدم وجود قواعد وأسس للعنونة، مثل وجود بعض اللوائح الإرشادية في شوارع رئيسة باللغة الإنجليزية بمسقط تشير إلى إحدى المدن ولكن الاسم في كل لوحة بإملاء مختلف عن الأخرى وكأنها مدن ثلاث مختلفة.

إنَّ أهمية العنونة ليست للاستدلال على موقع المدينة أو القرية أو محل الأرض أو العقار فقط، بل في التوزيع الجغرافي للمواقع وتابعيتها من الناحية الإدارية والقانونية والخدمية، وكذلك في تسهيل أمور الناس وتوصيل الخدمات وتوزيعها وبالطبع في ربطها بالمراسلات الرسمية والطلبات التسويقية ولا ننسى خدمات الشرطة والإسعاف. فمن سافر واستخدم نظام تحديد المواقع الجغرافية أو ما يُعرف بنظام (الجي بي اس) مثلاً يعرف حجم اليسر والسهولة في الاستدلال عن طريق الرمز البريدي للمنطقة ورقم العقار فقط، دون الحاجة إلى معرفة اسم المدينة أو الحي أو الحلة أو وصف البنايات القريبة من الموقع.

إنَّ الخدمات البريدية والعنونة ليست من قبيل الخدمات الترفيهية بل هي في صميم الخدمات الأساسية والمجانية للمتلقي لها في أغلب دول العالم، حيث قامت أمريكا بإعطاء الخدمة البريدية أهمية قصوى بتضمينها في الدستور الأمريكي قبل أكثر من ثلاثة قرون (سنة 1787م) وبالسماح للكونجرس بإنشاء المكاتب البريدية. كما قامت المملكة المتحدة وغيرها من الدول الأوربية بتضمين وحماية الخدمات البريدية.

فكم من حقوق لدى المحاكم والشرطة ضاعت بسبب عدم وجود عنوان معروف للمدعى عليه، وكم من أرواح فقدت لم يسعفها الوقت بسبب عدم معرفة العنوان، وكم من أعمال توقفت بسبب وجود فواتير أو إنذارات لم تستلم، وكم من خدمة تأخر تنفيذها بسبب تعدد الجهات المختصة بها مع اختلاف كل جهة لطرق عنونتها للموقع، وكم من زائر تاه بين أروقة البنايات بحثاً عن موقع لبيت أخ أو صديق. وكم من رسالة أو طرد ضاع بين صناديق بريدية خاوية.

ومع علمنا عن وجود لجنة للعنونة أنشئت قبل عدة سنوات، فإنّها لم تنشر نتائج توصياتها حتى الآن، وحسب علمنا فإنَّ مهمتها محصورة في نظام عنونة فقط دون ترميز جغرافي للمناطق. وهذا بلا شك سيجعل عملها قاصراً ومبتوراً بشكل جذري. وما يهمنا فعلاً أن تكون الخدمة تتواكب مع تطور العصر والحركة النشطة للتنقل والاقتصاد. ولعل مبادرة المبدع سعيد الريامي لبرنامج (عنواني عماني) لتجاوز هذه العقبة في عُمان عن طريق التكنولوجيا أحد أهم الحلول الأسرع والأسهل – وإن لم تكن معتمدة رسمياً - مقارنة بلجاننا ومؤسساتنا الحكومية.

فالعنونة المرادة ليست اسماً لشارع ورقما لبيت، بل هي أشمل من ذلك بحيث لا بد أن تغطي أوجه كثيرة، فلا بد من اتفاق جهات حكومية مختصة مثل وزارات الداخلية والإسكان والبلديات والشرطة وغيرها من الجهات الخدمية على تحديد حدود المناطق والمدن والقرى والأحياء. كما يجب أن يتم الاتفاق على طريقة ترميز هذه المناطق بنظام وطني واحد شامل، وتوحيد وربط خدمات الجهات الحكومية بهذا الترميز. على أن يتم توحيد مُسميات الشوارع والحارات باللغتين واعتمادها، وأن يتم ربط عنوان المواطن أو المُقيم بمقر أو بمقرات سكنه عن طريق الأحوال المدنية إلكترونياً.

فكم سيسعد المواطن أن تصله الخدمات المهمة أو يصله طرده أو رسالته إلى بيته دون شرح أو عناء، وكم سيقلل العمل على كافة الجهات الحكومية والخاصة في توفير خدمات أرقى للمجتمع دون الحاجة إلى وجود مطبات سواء مادية أو معنوية.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك