"حمود الجبلي".. سيرة الفساد التي لم تُقرأ بعد

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

للفساد ألف سيرة وسيرة يمكن أن تحكى.. كل منا يعرف واحدة منها لا يزال يراجع تفاصيلها المختلفة، ويتأمل في أشخاصها، ومسيرة كفاحهم الطويلة الصامتة في بناء ملكهم على أنقاض طموحاتنا التي تتهاوى تحت معاول هدم لا تعي قيمة الأشياء التي تضربها حتى ولو كانت وطنا، تهدم آمال أوطان لتبني أوطانا أصغر وأكثر قوة، أوطانا من زجاج مقوى لا يمكن أن يتحطم حتى لو قذف بحجارة من جبال الحجر التي خرجت منها إحدى هذه السير المهمة في مرحلة مبكرة جدا قبل (32) عاما.

سيرة حمود الجبلي التي تتبعها الكاتب سعود المظفر في رواية "رجال من جبال الحجر" في وقت كان الجميع منشغلا بتحولات غير مسبوقة تغير كل يوم معالم الحياة التي ألفوها، ولم يظنوا أنّه في ظل تلك التغيرات سوف تنبت بذور كريهة في تربة أرض بكر كان أهلها يعدون السرقة عارا يلحق بمقترفها قبل أن تصبح بمرور الوقت نجاحا وذكاءً وحسن استغلال للفرص. تبدلت المعايير بسرعة كما ظهر في سيرة حمود الجبلي الخيالية الذي خرج من تلك القرى ببساطته وطيبته وأمانته ولكن كل تلك القيم لم تعد تلائم الحياة الجديدة التي وجد نفسه فيها. هذه السيرة تعد رمزًا ومثالا توالدت منه بعد ذلك عشرات القصص والحكايات ليس آخرها الحكاية الأخيرة حول اختلاسات وزارة التربية والتعليم، فهي تعد جزءًا واحدا من أجزائها التي تحتاج إلى ألف ليلة وليلة لتحكي ولتبقى شهر زاد على قيد الحياة، ومع كل شمس تطلع تضاف إليها تفاصيل أخرى تزيد من إثارتها، وتعمق من إحساسنا بالغفلة التي تجعلنا نفقد أعز ما نملك، في وقت نحتاج فيه إلى القبض على كل ما نملك لكي نبقى ثابتين في ظل عواصف تهب علينا من كل الاتجاهات.

سيرة حمود الجبلي هي توثيق لسيرة فساد أولى ورغم أنّ التلاميذ الآخرين الذين جاءوا بعده لا يعرفون عنه شيئا إلا أنّهم مضوا يقتفون أثره، في رمزية عجيبة، يحملون طموحاته، ويتخلون عن كل قيمهم وأخلاقهم بحثا عن قيمة أكثر قبولا لدى الناس وهي قيمة المال الذي يؤثر في السلطة، ويجعلها أكثر لطفا واحتراما ومراعاة لأصحابه. هؤلاء التلاميذ تكاثروا منذ أن كتبت هذه السيرة وربما بعضهم أصبح أكثر انحدارا من حمود الجبلي الذي كان- أحيانا في غمرة العجلة المستمرة للحصول على امتيازات وأراض بالرشوة والواسطة، وبناء تحالفات من المصالح المتبادلة مع أبناء بلده وغيرهم ممن كانوا يحصلون على كل ما يريدون بطرق ملتوية- يراوده شعور بالذنب البسيط لأنه أصبح "خائنا" لبلده مواليا لمصلحته الخاصة، فقال ذات يوم: "انتظرت لكي لا تتلوث نفسي وأهزم، ظننت ذلك اليوم بعيدا نفسي تلوثت". كان حمود الجبلي من الجيل الذي كان يقرأ كتبا لكي يعمل بهدف ورؤية لبناء مملكته وفق نظرية عمل بها آخرون في مستويات أخرى، ولذا لم يتردد في قبول هدية "سايمون" حين قال له: "أريد أن تقرأ هذا الكتاب لأنه يصلح لهذه الفترة من حياتنا، كيف تبرر وسيلتك وتصل إلى غايتك بالطريقة التي تريدها". ربما لم يعد أحد من تلاميذ حمود لديهم وقت للقراءة، ولا يهمهم تبرير وسائلهم، هم يعلمون ولا وقت لديهم للتبرير هناك من يبرر لهم ما يريدون، ويعيد نسج الحكايات بطريقة مختلفة، ويحول الغايات السيئة إلى غايات نبيلة، ويتلاعب بالمصطلحات فـ"السرقة" أصبحت اختلاسا، والأخذ بدون وجه حق أصبح شطارة، وما أكثر الشطار بيننا.

يبدو أنّ ما سرده حمود الجبلي لصديقه الكاتب "خالد" حين سمعه يريد الهجرة مرتبطا بتلك المرحلة إنّما هو- للأسف- فعل لكل المراحل نتيجة تسامح كبير مع هذه الأفعال، قال له بنبرة فيها فلسفة وتجربة "من الرجال من اقتنص الغفلة، هناك من خطط لها لأنّه جيء به لسبب ما، رجال زوروا أوراقاً، وقدموها لبنوك على أنّها مستندات أملاك نزفوا من المبالغ ما شاءوا، جاء وقت أصبحوا هم القمة... أنت وكثيرون غيرك كانوا في زمن الطفولة أو الشباب زمنكم هذا زمن التعب في كل شيء ومن كل شيء... إيه يا خالد في رأسي أسرار أظنني سأموت بها".

ما أكثر الأسرار التي تموت في سير الفساد المالي المتعددة والمتنوعة، ويبقى لهذه الأجيال أن تتحمل التعب الذي يصنعه أصحاب هذه السير، وهم ما يصعب المهمة لكل الذين يعلمون الوطنية والقيم والمثل كما يقول خالد: "ما تعلمانه في المدارس والمعاهد لا مجال لتطبيقه في الحياة، واحد وواحد في الحياة يساويان ستة"، يرده عليه حمود الجبلي باستنكار "إذن أنت مخلص، ربما يساويان الضعف". أصبحت أثمن الأشياء التي نملكها مجرد أرقام في نظام رقمي، حتى الوطن أصبح عند البعض مجرد أرقام كلما كانت كبيرة كلما كان للوطن قيمة وكلما صغرت هذه الأرقام جردوا الوطن من قيمته، ما أحكمك يا حمود الجبلي! خذ الحكمة من أفواه "اللصوص"، هم أكثر ذكاء من غيرهم، وإلا لما تمكنوا من سرقة أوطانهم باحترافية تذهل كل من يتأمل في قصصهم وسيرهم المتعددة.

لا شك أنّ سيرة حمود الجبلي في رواية "رجال من جبال الحجر" وهي رواية من ثلاثة أجزاء تستحق أن تُقرأ هذا الأسبوع، فهي لم تقرأ يومها والكاتب يشعر بألم كبير على ما كان يشاهده من تحولات عميقة في الثراء غير المشروع بأساليب ووسائل ملتوية، فعلى الأقل يوجد مبرر اليوم لقراءتها  لأن ما جاء فيها من تفاصيل لا يزال يتشكل من سنة لأخرى بطرق وأسماء أخرى، علينا أن نتمسك بالقراءة الدقيقة وكتابة مختلف سير انتهاك المال العام في مختلف المراحل لنبني وعيا وضميرا، آخذين بنصيحة حمود الجبلي في حواره مع الكاتب والشاعر خالد حين عرف بيأسه ونيته في الهجرة، قال له مستنكرا: "أنت الشاعر: عقل وضمير الناس أتهاجر"؟، قال خالد بحزن وقنوط: "عقل الناس الآن في الريال الأحمر"، فرد عليه الجبلي: "من سيغسل أرواحنا الصدئة؟". نحتاج بالفعل إلى من يساعدنا لنغسل بعض الأرواح الصدئة التي تسيء إلى وطننا الذي كما تنبعث فيه سير الفساد تنبعث فيه عشرات سير الإخلاص لكي تصنع أملا لخالد وغيره من الشباب الذين لن يجعلوا عقولهم في الريال الأحمر، إنّما سيجعلونها في البحث عن أفضل الطرق للارتقاء بعمان البلد العظيم الذي لا يستحق إلا أفعالا عظيمة بقدر عظمته ومكانته.