أسطورة الضريح الصامت!

أماني المسكرية

بين الأساطير والخرافات تعيش هذه السيدة متذبذبة عن جذور قصتها الحقيقية، وتعاتب التاريخ الذي لم يدون هويتها الفعلية.. تحتضن مدينة قلهات الأثرية التي أدرجت كمعلم تاريخي بمنظمة اليونسكو ضريحها، فمدينة قلهات الساحلية يعتبرها المؤرخون أقدم مدينة عمانية على الإطلاق، وكان ميناؤها يستقطب الكثير من السفن القادمة من مختلف أنحاء العالم، وصلت إليه سفن من الشرق الآسيوي القريب والبعيد بجانب اليمن وإيران أيضا، ومعظم الأساطيل التي كانت تعنى بالتبادل التجاري على طريق مضيق هرمز، كما تعد أول عاصمة لعمان قبل مجيء الإسلام.

الطريق إلى الضريح يحتاج منك إلى أن تقطع منطقة ترابية جبلية مرتفعة تفترشها الكثير من الحصوات. وعندما وصلت هناك بسيارتي الصالون قررت المشي سيرا على الأقدام حتى اتذوق أبجديات صعوبة الوصول إلى الضريح، عرضت عليّ عائلة أنا وصديقتي الركوب بسيارة الدفع الرباعي تقليصًا للجهد ولكنني قررت تكملة المسير، والحقيقة أنه مجهد جدا (أنصح بعدم اتباع قراري).

وعند وصولك تجتاحك لحظات صمت وتشعر بأنك تقف أمام صرح أثري فني طيني حجري واجهاته من نحوتات ورسومات اختفى معظمها؛ وبه نوافذ على شكل أقواس تستطيع أن ترى السرداب السفلي للضريح وتعلوه قبة يبدو أن جزءا منها قد تهاوى. ويبدو كأنه ذو طابع هندي أو إيراني لنقوشاته ومرة تشعر أنه فرعوني أو مغولي أو فارسي، وأعتقد أنه أندمجت عدة حضارات في بنائه، وترى إلى جانب القبر آثار مسجد مُختفي المعالم حسب الروايات، ويبدو أنّ عاصفة أو زلازلاً أو حرباً تعرضت لها المدينه وأخفت الكثير من معالمها. لكنه وقف شاهدا ودليلا على وجود امرأة ذات تفرد وتميز أجبرت القوم في حقبتها على تشييد الضريح لها.

وأولى الروايات تقول إنَّ الضريح يرجع لحاكم قلهات بناه لزوجته عام 1311 قبل الميلاد. ورواية أخرى تقول بأنَّ الأرض خسفت من أجلها بعد أن صرخت صرخة تحول كل رجل من قريتها إلى صخرة وانتقلت روحها لخالقها، وكانت قد رأت بعينيها حوتاً ميتاً تأكل منة الغربان برأس الحد.

وهي في قلهات فاستغرب منها أبناء قريتها وطمعوا بالزواج منها ومنهم أبوها أو أخوها وعلى إثر صرختها خسفت الأرض بهم، وثالثة تقول إنَّ الضريح كان كنيسة والحوض الذي بجانبه هو للمعمودية، ورابع رواية هي عن ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" بأنها "بيبي مريم" شيدت مسجدا باسمها وزينته بالنقوش ورصعته بالقاشاني بينه وبين البحر واضحا للأعين، ويعتقد أنها حكمت قلهات في النصف الثاني من القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الميلاديين وقد كانت زوجة بهاء الدين أياز حاكم هرمز.

صحيح أنه لم تسطر أي من الكتب التاريخية أنها كانت حاكمة فعلية، ولكنها حكمت بدينها وأخلاقها وصلاحها. وعلمت العرب والعجم والهنود. فلقد كانت قلهات ميناءً تجاريا مهما يأتيها من كل بقاع الأرض تجار كانوا أو غزاة، وفي اتصال مني بصديقتي طلبت منها أن تسأل جدتها المداوية الشعبية عن خلفيتها عن ضريح بيبي مريم. فجاء الرد الذي أضحكني قائلة إنها لا تعرف امرأة بهذا الاسم، واعتقدت أني أسألها عند إحدى الجارات. عندما أوضحت لها مقصدي سردت قصة عن أنها تعرضت للقهر والظلم من أبيها وزوجته حتى هربت من منزلها وابتلعتها الأرض وبقي جزء من لحافها شاهدا على قبرها فشيد الضريح لها.

عزيزي القارئ، في اللحظة التي قررت الذهاب سيرا إلى الضريح إلى أن وصلت وأن استشعر كامرأة الجماليات الحسية والروحانية للمعلم الأثري الذي بقي صامدا ومجهولا يحكي للزمن بعزة الصمت ولغة النقش ومجد الشموخ عن "بيبي مريم". وعند مُغادرتي تذكرت نصيحة جدتي عندما كانت تخبرنا أنه عندما كانوا يزورون أضرحة الأولياء يقرأون سورة "يس" ويتبركون بالمكان، رجعت مرة أخرى وجلست عند السور الحديدي للضريح وقرأت سورة "يس" على روحها الطاهرة. وقلت في نفسي إنَّ التاريخ والناس لا يذكرون امرأة إلا إذا كانت وضعت لهم علامة فارقة وتفوقت بعلم أو طهارة روح وتسامح وعدل إنساني مبين. وأضيف أنه في بعض القراءات التي يجهل فيها الناس حقيقة شي ما، قرر بنفسك، استعمل الحس الروحي وصوت الحق بداخلك حتماً سيقودك بطريقة ما بتصرف ما إلى حسن الصواب والمآب.

خاتمة المندوس"ما يُفيد الجسد هو عمل الجسد وما يُفيد الروح هو عمل الروح، وما يفيد كل منهما هو عمل الآخر"، هنري ديفيد ثورو.

تعليق عبر الفيس بوك