رحيل عالِم وفقد مناضليْن

 

 

علي بن سالم كفيتان

 

ليست لديَّ خبرة فيما يعرف بحفلات التأبين، ولم أحضر أيًّا منها؛ لذلك لا أجيد هذا النوع من الطقوس الجنائزية، ورغم ذلك أصابني رحيل ثلاثة رجال -كان لهم عظيم الأثر في الحياة العامة- خلال الشهر الماضي، بنوبة من الشعور بالذنب، إذا لم أكتب عنهم، وتكاد تكون معرفتي بهم -رحمهم الله- معدومة، وفي ذات الوقت لا ألتمس من أهلهم وذويهم سوى الشُّعور معي بأنني افتقدتهم، ومعي كثيرون لم يستطيعوا التعبير عمَّا يجيش في خواطرهم من ذلك الفقد الصامت.

الفقد الأول كان لعالِم الاجتماع الأستاذ الدكتور سالم بن بخيت تبوك، رجل فقد حركته منذ كان صغيراً، لكنَّه ظل مُكابداً لصِعَاب الإعاقة؛ فقد هاجر مع أسرته منتصف القرن الماضي إلى الجمهورية اليمنية، ثم عاد إلى وطنه في العهد الزاهر، وبدأ رحلة طويلة في هذه الحياة، فانتزع لنفسه الأستاذية في علم الاجتماع من أرقى الجامعات الغربية، وعاد إلى وطنه أستاذا جامعيا في علم الأنثروبولوجيا، تدنُوا له الرقاب إجلالا واحتراما؛ فهو القابع على كرسيه المتحرِّك الذي دأب على قيادته بكل حِرَفية إلى قاعات التدريس، وإلى منابر المؤتمرات، وفي الوقت ذاته إلى سيارته التي رأيته فيها في تسعينيات القرن الماضي، فكان يصعد إليها بصعوبة من على كرسيه، رافضا الدعم من جموع المارة، كُنت جالساً أتأمل ذلك الرجل حتى انطلقت سياراته إلى الأفق في ذلك المساء، فظل محفورا في ذهني، حتى سمعت خبر رحيلة استعدت المشهد كاملاً.

كانت لي معه مُقابلة يتيمة عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي قبل حوالي أربع سنوات، كُنا في حديث عن مجلس الشورى؛ فكم كان عميقا في نظرته للأمر، وكم نحن سطحيِّين، أذكر أنني طلبتُ منه ترشيح نفسه، فضحك مني، وقال: "أنا رجل عجوز ومريض كما ترى، وقد لا أصلح لهذه المهمة"، وكانت له وجهة نظر عن المحاصصة القبلية لم أعرف أثرها إلا بعد عدة سنوات، كما عبر -رحمه الله- بجلاء عن هذا الأمر من خلال مقطع فيديو تمَّ تداوله بعد وفاته، راهن من خلاله على الشباب، ووجَّههم إلى أن ينخرطوا في نقل وجهات نظرهم بكل شجاعة وحيادية حول اختيار أعضاء مجلس الشورى من خلال تأثيرهم في الرأي العام في قراهم ومدنهم، ولا يكتفوا بالتذمر فقط. اختار عالم الاجتماع أنْ يُواري جثمانه الثرى بمقبرة رصم في جبال ظفار؛ حيث كانت نشأته الأولى، ولا شك أنَّ أكثر من سيفتقدونه هم تلاميذه في أروقة جامعة السلطان قابوس، وصُحبته من الأساتذة وبقية الأهل في الجبال.

الفقد الآخر كان للشيخ الداعية محمد بن عبدالله العليان، الذي كان أحد أوائل الثانوية العامة ثمانينيات القرن الماضي، ودرس في الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح ضليعا في الأدب الإنجليزي وعلوم الترجمة، ولم يكتفِ العليان بهذا، بل شد رحاله إلى حدود لبنان، ومن على قلعة شقيف المطلة على فلسطين المحتلة، ناضل قُرَابة التسعة أشهر مع المقاومة الفلسطينية، إلى جنب الأخ أبو عمار (ياسر عرفات)، قبل أن يعود إلى وطنه مجددا، ويخدم في المجال الإعلامي قرابة الـ40 عاما. لقد جاب العليان الكثير من بقاع الدنيا كداعية مُتمكِّن في علوم الدين والدنيا، وكرجل ضليع في اللغة الإنجليزية؛ حيث منحته هذه الصفة الميزة الاستثنائية مُخَاطبة الناطقين بها، فكان أبو عبدالرحمن -رحمه الله- المتحدث الرسمي لجماعة الدعوة والتبليغ، إذا كان الطرف الآخر لا يجيد العربية، ولقد ألَّف -رحمه الله- سلسلة كُتب في الدين والفلسفة والترجمات الشعرية... وغيرها، وكان آخر عهدي به في شهر أغسطس الماضي عندما حضرتُ ندوة لقراءة آخر مؤلفاته، قدمها الدكتور أحمد المعشني، في مهرجان صلالة 2018، ضمن أنشطة معرض الكتاب.

الرجل الثالث هو المغفور له -بإذن الله تعالى- سالم بن علي كانون جعبوب، عُرِف عنه الشجاعة والطيبة والكرم، وسيرته خلَّدتها المقاومة العربية الباسلة في ستينيات القرن الماضي على جبهة الجولان المحتلة؛ فقد ناضل بن كانون على ثُغور الشام مع ثلة من الأحرار آنذاك، ودافع بأغلى ما يملك عن الأرض العربية، وسيذكر التاريخ أن رجالًا من هذا الوطن الغالي لبُّوا نداء الدفاع عن الأمة العربية وعن المقدسات، ولقد شكل المرحوم إحدى ركائز الاستقرار مع بداية عهد النهضة المباركة؛ فانحاز إلى جانب قوات السلطان، وعمل بكل طاقته وفكره لإرساء الحق والعدل الذي نادى به مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه.

فرَحِم الله الثلاثة، وأسكنهم فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون....،