لكي لا يذهب الإنفاق البحثي الخليجي هدرًا

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

* كاتب قطري

قُلت في مقالٍ سابقٍ بعنوان "مستقبل الحَداثة في الخليج" إنَّ الخليج حقَّق تحديثاً مزدهراً، بفضل الثروة الريعية التي هي هِبة المولى عزَّ وجل، دون أن تسبقه حداثة فكرية واجتماعية وسياسية، وهذا وضع استثنائي؛ لأنَّ المجتمعات المزدهرة الأخرى، سبقت حداثتها تحديثها.

تلقيتُ تعليقات مؤيدة، وأخرى تساوي بين الحداثة والتحديث، مهما يكن الأمر؛ فلا جدال في أهمية البحث العلمي في تحديث المجتمع الخليجي: سياسيًّا، واقتصاديًّا، وإداريًّا، واجتماعيًّا، وفكريًّا، وفِي تحقيق نهضة علمية وتكنولوجية .

التساؤلات المطروحة :

هل يُسهم البحث العلمي الخليجي في تحقيق حداثة خليجية مستدامة، وما دوره في تطوير مشاريع التنمية والإنتاج والطاقة والأمن الغذائي والدفاعي؟! وما هي عقبات الاستثمار البحثي في الارتقاء بالمجتمع والدولة والاقتصاد؟

المُلاحظ أنَّ كافة الدراسات العربية تركز على أن التمويل، هو العقبة الأساس في هامشية البحث العلمي، وأنَّ الإنفاق البحثي الخليجي متدنٍ، لا يتجاوز نسبة 1% من الناتج القومي، مقارنة بالدول المتقدمة 2.1%، وبإسرائيل 4.7% كمقارنة محرجة.

وهذا كله وهمٌ مضلل؛ فالتمويل، على أهميته، ليس هو المعوق الأساس، كما أن التمويل الخليجي ليس متدنيًا، ويجب عدم بخسه، الإنفاق الخليجي يقارب الإنفاق في الدول المتقدمة، الدول الخليجية تتسابق في رصد الموارد السخية للبحث العلمي والتعليم والمراكز البحثية والمدن التعليمية والجامعات والإنفاق في مجالات العلوم والابتكار والتكنولوجيا وأبحاث الفضاء وتطوير المناهج واحتضان الكفاءات والأدمغة المهاجرة وتكريمها والمؤتمرات العلمية ورصد الجوائز للمتفوقين علميًّا، وقد يصل معدل الإنفاق العلمي إلى 2% من الناتج القومي، ووفق دراسة مجموعة الأبحاث الأمريكية "باتيل"، فإنَّ قطر تتصدر الإنفاق البحثي الخليجي، بنسبة 2.8% من الناتج المحلي للأبحاث والتطوير، نسبة تماثل نسب دول كبرى، بل قد تفوقها، إضافة لوقفية خاصة للبحث العلمي، الدولة في الخليج هي الممول الرئيس، بينما الشركات الكبرى في الدول المتقدمة، هي المساهم الأكبر (%70)؛ لأنها أول المستفيدين.

التمويل ليس هو العقبة، وإنما عقبات بنيوية ملازمة للنمط الاقتصادي الريعي؛ أبرزها:

أولا: الحاجة أم الاختراع مُنذ أن اكتشف الإنسان إمكان تحويل الحجر إلى أداة مفيدة، وفي مجتمع ريعي مرفَّه يأتيه رزقه رغداً، ينعم أفراده بأحدث منتجات العلم التكنولوجيا، فإنَّ البحثَ العلميَّ لا يشكل حاجة ملحة، بل إن العلم نفسه لا يشكل قيمة مجتمعية عليا، بل قد يعد البحث ترفاً فكريًّا؛ كون المال الخليجي قادرًا على تذليل المشكلات المجتمعية، واستيراد أحدث الابتكارات بكل يسر، بتوقيع واحد يستطيع المسؤول الخليجي إجراء صفقة استيراد أحدث مصنع أو معمل أو مستشفى أو حتى إنشاء مدينة علمية وتقنية كاملة بنظام "تسليم المفتاح"، فلِم عناء البحث العلمي والانتظار الطويل لاستنبات "العلم" وتوطينه؟!

ثانياً: لا يشكو الخليج  نقصاً في البحوث، هناك فيضان بحثي يتجاوز الـ150ألف بحثا، لكنها بحوث بلا ثمار، لا تُعالج المشكلات الحقيقية للمجتمع الخليجي، غالبية البحوث، لفئة الباحثين/الموظفين الذين يسعون خلف الترقيات، أو لدوافع مادية بحتة، ولا علاقة لها بالواقع الخليجي، يختار العنوان أولاً ثم تنحت له مشكلة وأهداف؛ فلا يكون حلًّا لمشكلة، ولكن اصطناع مشكلة يبحث لها عن حل! وحتى البحوث القليلة الحاصلة على براءات الاختراع، لا يُستفاد من نتائجها؛ كونها غير قابلة للتطبيق أو لكلفتها.

ثالثاً: صعوبة الوصول إلى البيانات والإحصاءات الرسمية، هذا إن وجدت، وإحاطتها بالسرية الأمنية، ووضع العراقيل أمام الباحث، ورفض تزويده بالمعلومات، بل وترهيبه، خاصة إذا كان البحث يمس قضايا يراد إخفاء حقائقها.

رابعاً: افتقاد البيئة العلمية الداعمة للبحث العلمي، يملك فيها الباحث الحرية الأكاديمية والاستقلال الفكري، ولا يقيد فيها الباحث بسلسلة من الخطوط الحمراء التي تشكل تابوهات معوقة للإبداع والابتكار.

ختاماً.. الإنفاق البحثي الخليجي سخيٌّ، لكن استفادة الخليج منه هزيلة، ولا توجد دراسة خليجية تقيِّم جدواه على المسيرة العلمية والتنموية الخليجية، وترشد الهدر في الإنفاق.

تعليق عبر الفيس بوك