الجولان.. ما أشبه الليلة بالبارحة

حاتم الطائي:

بدلا من أن يتخذ ترامب خطوات لتحسين صورة إدارته والسعي الجاد نحو السلام يتعمّد استفزاز الشعوب العربية

القمّة العربية فرصة مواتية لبناء موقف قوي موحد ضد قرارات الرئيس الأمريكي

 

أندهشُ بشدة من الانحياز الأمريكي الفاضح تجاه إسرائيل منذ أن تولى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الحكم في بلاده؛ حيث يتعمّد في خطوة تلو الأخرى أن يهدم الثوابت المتفق عليها في قضايا الشرق الأوسط؛ وعلى رأسها القضية الفلسطينية لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وكأنّ الرئيس ترامب لا يرى سوى دولة الاحتلال طرفا ليدعمه ويتخذ قرارات مصيرية تصب في صالح المحتل فقط، بدلا من اتخاذ قرارات تخدم عملية السلام في الشرق الأوسط، أو على أقل تقدير منع الاحتلال من التمادي في غيه الاستعماري وتدنيسه للمقدسات الدينية.

ولقد تابعتُ وتابع الجميع قرار ترامب الأخير بخصوص الجولان السورية المحتلة، والتي اعتبرها بقرار رئاسي منه "أرضا تحت السيادة الإسرائيلية"، في تعدٍ صارخ على مقررات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة في هذا الخصوص، والتي تعتبر الجولان أرضًا سورية خاضعة للاحتلال الإسرائيلي، مثلها مثل الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل. مثل هذه الخطوات السلبية من قبل الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، تعزز الصورة النمطية السلبية لهذه الإدارة لدى جموع الشعوب العربية، فبدلا من أن يتخذ الرئيس الأمريكي خطوات لتحسين صورة إدارته والسعي الجاد نحو تحقيق السلام في منطقتنا، يتعمّد استفزاز الشعوب العربية بل وإحراج الحكومات العربية بقرارات لا تمت بصلة إلى أية جهود مزعومة للسلام. فالتحركات التي نشهدها بين الفينة والاخرى لدفع عملية السلام قدما، تواجه جبالا من العراقيل، أقلها حدة مثل هذه القرارات، وأشدها الرفض الشعبي المتنامي للكيان الإسرائيلي.

شاهدنا خلال الشهور الأخيرة الجولات المكوكية التي قام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للمنطقة، وتلك التي أجراها جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس ترامب وصهره في نفس الوقت، سواء بحضوره إلى بعض دول المنطقة أو الاتصالات التي لا تنقطع- حسب علمنا- مع بعض القادة في الإقليم، وجميع هذه التحركات تمضي تحت زعم "صفقة القرن"، تلك التسمية الهلامية التي حتى الآن لم تتضح معالمها بعد، حتى إنّ الإدارة الأمريكية نفسها ربما لا تدرك جيدا حقيقة وطبيعة هذه الصفقة، التي تستلهم فكر "التجار" بدلا من رؤى الدبلوماسيين والسياسيين. فمفهوم الصفقة يعني أنّ هناك طرفين مستفيدين وأن كليهما سيدفع ثمنا أو يقدم "بضاعة" مقابل ما يعادلها في القيمة والمنافع التي ستعود عليهما. إلا أننا لم نجد- حتى اللحظة- أية منفعة أو مكسبا لصالح القضايا العربية، بل إنّ جميع ما اتُخذ من إجراءات وقرارات لا تدعم سوى تجذير المحتل في الأراضي العربية دون وجه حق. فبعد قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، صدر قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في استهزاء كامل بالمواثيق والاتفاقيات التي وقعتها حتى إسرائيل، وبما يعكس ضربًا بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط، فعن أي خطة سلام نتحدث؟ إنّها بلا شك سلام من المفهوم الإسرائيلي الذي يدفع المحتل إلى هدم بيتٍ بالكامل على أهله نتيجة الظن باختباء شاب فلسطيني مقاوم لهذا المحتل المغتصب لأرضه.. إنّه السلام الذي يمنح إسرائيل بالباطل الحق في شن غارات جوية على قطاع غزة أو التخطيط لاجتياح بري إذا ما سقط صاروخ في أرض فضاء والادعاء بأنّه هجوم من الفلسطينيين. هو السلام الذي يتيح للاحتلال أن يواجه الشباب المتظاهر بصدور عارية وبشجاعة منقطعة النظير، بالرصاص الحي والقناصة!

ثمّ يأتي ترامب بعد كل ذلك وفي ظل الجمود العنيف لملف السلام، ليقضي بأن الجولان "تحت السيادة الإسرائيلية". ما أشبه الليلة بالبارحة!! لكن أي بارحة نقصدها هذه المرة؟ هل هي البارحة التي منح فيها رئيس مجلس العموم البريطاني آرثر جيمس بلفور وعده المشؤوم لليهود كي يقيموا على أرض فلسطين العربية "وطنهم" المزعوم؟ هل هي البارحة التي شهدت العدوان الإسرائيلي في عام 1967 على الأراضي العربية؛ سيناء في مصر، والجولان في سوريا، وقطاع غزة والضفة في فلسطين؟

لا أعلم حقيقة بماذا ظن ترامب نفسه فاعلا عندما "منح" دون وجه حق الجولان لإسرائيل بهكذا قرار! لكن عندما نتتبع أفكار ترامب ورؤيته للعالم ولأمريكا، فإنّه لا يمارس سوى عدوان مباشر على النظام العالمي والأمم المتحدة، بل إنّه مزّق القرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن في أعقاب عدوان 1967، وأهال التراب على جميع القرارات المشابهة من المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى. ترامب قدم هدية غير مسبوقة للمحتل الإسرائيلي، تزامنت مع الاجتماعات السنوية للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة التي تنعقد تحت مسمى اجتماع لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية "أيباك"، وقبل فترة وجيزة من انتخابات عامة في إسرائيل ستحدد من يجلس على كرسي رئيس الوزراء. بعبارة أخرى، قرار الجولان يخدم الداخل الأمريكي ويمنح ترامب مزيدا من التأييد من جانب اللوبي الأشد تأثيرا في ثالوث الإعلام والسياسة والاقتصاد، ويخدم أيضا موقف رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.

وفي خضم هذه الأحداث كلها، أتأملُ خريطة الأوضاع في الدول العربية وما يجري من متغيرات فيها على الأرض، وأُدرك جيدا حجم التحديات التي يتعين علينا مجابهتها والتصدي لها. نعم وجدنا جميع الدول العربية قد أدانت واستنكرت وعبرت عن رفضها للقرارات الأمريكية كلها، سواء فيما يتعلق بالقدس المحتلة أو الجولان المحتل، لكن ما من رد فعل خرج عن نطاق التصريحات والبيانات المطبوعة!

ما الذي يحول دون موقف عربي موحد في مثل هذه القضايا، نملك أدوات عديدة للضغط الاقتصادي والسياسي على الغرب، ولدينا قوى ناعمة قادرة على التأثير في المشهد، فما المانع من إعلان بيان عربي موحد يتم فيه تجديد الالتزام بمقررات الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وأهمها القرار رقم 242 الذي يُلزم إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في عام 1967.

اليوم تنعقد القمة العربية في تونس، وهي فرصة مواتية لبناء موقف عربي تضامني مع القضية الفلسطينية والجولان السورية المحتلة، ومواقف الإدارة الأمريكية المستفزة تجاه القضايا العربية بشكل عام. والأنباء التي تتواتر عن القمة تشير بوضوح إلى رغبة الدول العربية في اتخاذ موقف قوي إزاء هذه الملفات، لكن المؤكد أننا لا نريد بيانا على الورق، ولا تصريحات صاخبة لا يهتم بها سوى الإعلام العربي، بينما الإعلام الغربي أو الإسرائيلي يتجاهلها وكأنها لم تكن!

إنني لم أفقد مطلقا الأمل في أيٍ من القضايا العربية، رغم الإحباطات المتكررة، لديّ إيمان عميق بأنّ السلام هو الذي سيسود في نهاية المطاف، وأنّ الحل السلمي سيظل الخيار الاستراتيجي للعرب، لكنّي في الوقت نفسه أرى أنّ السلام يحتاج إلى قوة تدعمه، قوة دبلوماسية تتفاوض من أجل المصالح المشتركة، من أجل إزالة المخاطر عن منطقة الشرق الأوسط، لغة الإرهاب لم تعد تحتكم إلى التطرف الديني، بل تحولت إلى التعصب العرقي، الإرهاب العنصري أشد فتكا من الإرهاب المستند زورا إلى الأديان.

وختاما أقول.. على العرب أن يتحدوا في مواقفهم، وأن يدركوا حجم التحدي الذي هم مقبلون عليه، فالأمر لم يعد تجميدا لقضية العرب الأولى في أقبية الدبلوماسية الغربية، بل إنّ وعد بلفور يتكرر بصورة أسوأ وأشد مأساوية، وإذا ما ظلّ الصمت العربي هكذا، فسنقول كل يوم "ما أشبه الليلة بالبارحة"!!