الحياة المؤجلة.. متى تبدأ؟!

فايزة الكلبانية

قرأت في "حديث الصباح" ذات يوم عبر الشرفات الباريسية التي ألمح في وجوه عابري طرق هذه المدينة الساحرة عشق الحياة الممزوج ببرد السماء، فـ"حديث الصباح" يؤكد أنّ أجمل ما في الحياة تلك الأشياء التي لا تقدر بثمن، ويقف المال أمامها عاجزا فقيرا لا يستطيع شراؤها.. كحنان امرأة تحبك.. وسند رجل يهتم بك.. وأولاد أذكياء يتمتعون بالصحة والعافية، وأصدقاء مخلصون، ودعوة أم في الصباح، ورغيف خبز حلال، وبيت عماده الستر وجدرانه الحب، وإنسان يحيا معك يسعى لأن يجعلك سعيدا ويشاركك لحظات الفرح الجميل.

هذه هي الحياة التي لا يستطيع المال أن يشتريها، ويجب ألا نجعلها على قوائم "الحياة المؤجلة"!

وفي المقابل نجد أنّ هناك حياة جميلة مؤجلة تسكن أذهاننا وتحتل عقولنا وتأسر قلوبنا، لا نعلم متى سنصل إليها في ظل الروتين اليومي الذي اعتدنا أن نعيشه، مع ظروف العمل التي لا تنتهي منذ شروق شمس الصباح وحتى الغسق مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعضنا يستمتع بهذا الروتين العملي اليومي ليس لكونه مهنة ومصدر لقمة العيش فحسب، لكن ربما يجد في عمله متعة حياته المؤجلة، فيعيش فرحا بتذوق حلاوة الإنجاز والانتصار لذاته، ومتعة التحفيز الذي قد يجده بالرغم من شراسة المنافسة من حوله، ولكن نأبى الاستسلام، ونمضي بعزيمة لنعيش متعة الحياة بكل ما هو متاح. إلا أنّ كل هذا الواقع الجميل يصحبه واقع آخر على هيئة "أمنيات" في ظل حياة مؤجلة ونرغب في أن نجد الوقت المناسب للقيام بها والحصول عليها، ونحن دائما مشغولون بها، وقد يؤرقنا التفكير في الوصول إليها منشغلين بزحمة الأعمال والمنزل والأولاد والروتين اليومي بين الحقوق والواجبات، فنعود مرة أخرى لنفقد "متعة الحياة" لتصبح سعادتنا مرهونة بما يتحقق من أمنياتنا في "حياة مؤجلة"، رغم أنّ بعضنا يقول في ذهنه وقرارة نفسه "القادم سيكون أجمل بإذن الله".

قرأت ذات يوم عبارة رسخت في ذهني مفادها أنّه يجب أن تكتب أهدافك لهذا العام على ورقة، ولا تكتفي بأن تجعلها مجرد نية أو أفكار في ذهنك، لأنّ المكتوب سيكون له نصيبا أكبر في التحقق على أرض الواقع. والبعض منا يرسم لنفسه خططا وأهدافا يسعى لتحقيقها والوصول إليها مهما بلغ من العمر عتيا. لكن قد تشاء الاقدار ألا يصل إليها ويحققها الا بعد المرور بمطبات وتحديات وعراقيل تُصعّب عليه مهمة الوصول إليها، لكن هنا لن نستسلم.. ولن نيأس.. فقد تجبرنا الظروف أن نؤجل هذه الطموحات لنسطرها ضمن أولوياتنا وضمن قائمة أهداف حياتنا المؤجلة، مع الوضع في الاعتبار ضرورة السعي الجاد والمواجهة الشرسة إن تطلب الأمر للتغلب على كل هذه التحديات، لكي لا نظل نعيش في ظل حياة مؤجلة.

كثير من الأمنيات المؤجلة تتفاوت بين الإيجابية والسلبية، المفرحة والمحزنة، لكن تظل أمنيات تشغل تفكيرنا ونؤجل تنفيذها بفعل الأقدار تارة، ورغبة متعمدة وتخاذل وتقاعس منا تارة أخرى. فنجد البعض يردد في ذهنه "غدًا سأكمل دراستي" أو "غدا ستكون علاقتي مع خالقي أفضل وأكبر" أو "غدا سأعتذر لوالديّ عن تقصيري في حقهما" أو "غدا سأكون مستعدا للسفر وستكون لدي ميزانية أفضل"، أو "غدا سأبحث وسأحصل على وظيفة أفضل"، أو "غدًا سأترك كل ما يعكر صفو حياتي لأجد الطريق الصحيح الضائع مني"، أو "غدا سأكون مستعدا لمرحلة الزواج والمسؤولية والعائلة" أو "غدًا سأخصص جزءا من وقتي للعبادة والتوبة النصوحة وأترك أي فعل يغضب ربي"، أو "غدًا سأقضي وقتا أطول مع زوجتي وعائلتي.. سأجد الوقت"، أو "غدًا سأكون صاحب منصب هام بالدولة" أو "غدا سأترك التدخين وسعادتي السيئة"... وغيرها من الأمنيات التي لا تعد ولا تحصى تظل حبيسة كلمة "غدًا" ولكن متى تبدأ "الحياة المؤجلة"؟!

وهناك أمنيات في عالم "الحياة المؤجلة" غير الشخصية، منها غدا سوف نكبر وسنصبح ما نريد.. غدا سوف نقضي على الفساد والمفسدين.. غدا ستتحرر القدس عاصمة فلسطين.. غدا سوف يعم العالم السلام والحرية.. غدا سوف نحيا حياة أفضل.. غدا سوف ننعم براحة البال.. غدا سوف نلقى الأحبة..

لكن متى سوف يأتي هذا "الغد"؟ الإجابة تعتمد على مدى قدرتنا على بذل الجهد والسعي للحصول على ما نريد، فاليوم هو غدًا الذي كنا ننتظره بالأمس. فلنعش متعة الحياة.. ولنعش الحياة المؤجلة بطرقنا الخاصة المتاحة أمامنا، ولا نؤجل أفراحنا للغد، لأننا لا نعلم هذه الحياة المؤجلة متى تبدأ؟!