كغابةٍ عبرَتها رُصاصة

 

محمد علي العوض

وفي المشهد

سيُطلقون عليك النار

لن تموت

وكمثلِ غابةٍ

عبرَتها رصاصة

ستبقى واقفاً

تتصاعد منك العصافير

       

          بيسان خيربك،،،

 

كان الشعر بما يمتاز به من ميكانيزمات خلق وفضاءات؛ الشكل الأسرع دوما في التعبير عن حس المقاومة؛ ربما لأنّ الحيْف من شأنه تفجير ديناميات اللغة وأدوات الشاعر فتأتي الكلمات كرد فعل مضاد رافض لكل ما يعكر صفو الحقيقة. فالمبدع الحقيقي ملتزم دومًا بقضايا أُمّته، لا يعرف الحياد أو كف اللسان حين تعصف رياح الظلم بشجرة الحرية والإنسانية.

إنّ أدب المقاومة قديم قدم اللغة نفسها، فمن يقرأ أشعار امرئ القيس، وعمرو بن كلثوم في نونيته الشهيرة، وروميات أبي فراس الحمداني وغيره، يلمح فيها ذلك الحس الذي اتخذه المبدع ميدانا لمعركته مع الآخر المعتدي؛ وسلاحًا ينافح به عن المكتسب الإنساني عبر نصوص جمالية يتوسل بها المبدع خدمة قضيته وفكرته الأيديولوجية التي ينتمي إليها؛ إذ لا حياد في الأدب؛ فالمبدع هو دائمًا وبدرجات مختلفة منتِج للأيديولوجيا على حد قول "باختين".

الأدب المقاوم/ الملتزم لا يخرج عن هذا المسار، لأنّه قرين وعي المبدع بذاته وقضيته حين ينفتح نصّه على المستويات المختلفة؛ وينبِئ عن قدرته على تحويل ذلك العمل إلى طاقة قادرة على دفع حركة المواجهة مع الآخر الباطش الظالم؛ حينها يصبح ذلك المنتوج الفني مرجعا تستلهم منه الجماهير روح النضال والتمرّد على السائد.

هذا النوع من الأدب يصفه حسين جمعة في كتابه "ملامح في الأدب المقاوم" بأنّه يرتقي في معراج القيم إلى مصاف التعبير عن كلِّ ما هو نبيل وسامٍ لتحقيق كرامة الإنسان وحريته وطمأنينته؛ فملامح هذا الأدب تنبثق من مفهوم العزة والحرية والاستقلال والسيادة.

إلى وقت قريبٍ، كان شِعر المقاومة يرتبط بعصر الدولة الكولونيالية وما بعدها، قبل أن تنفتح نصوصه على فضاءات إنسانية وقيمية أخرى، وليصبح صرخة رافضة لكل أشكال القهر والفساد وظلم توزيع الثروات وسحق الجماعات؛ كما في قول عبدالسلام حبيب:

الويل لك

يا خائن الشعب الجريح

لن أستريح

حتى تموت... سأقتلك

باسم الوطن

وذات الصرخة تنطلق في قصيدة "الشهيد" للشاعرة السورية فاديا غيبور، حين تخيَّلت عودة شهيد لوطن ضحّى من أجله:

لم يكن يحمل ورداً يوم عاد

كان في كفيهِ نار ودخان ورماد

وأغانٍ شاحبة

 

ليجد الشهيد أنّ أيادي اللصوص قد عاثت في وطنه فسادًا ونهبا وجورا:

حدِّثوه عن عصافير وأطفالٍ جياعٍ

عن قرى تخلع قمصان البراري

ثم تذوي ألماً من ساكنيها

حدثوه عن حدودٍ مستعارة

عن جوازاتِ سفر

حدثوه عن لصوصٍ ورعاةٍ

سرقوا ضَوء القمر

محمود درويش في كل دواوينه كان يهتف في وجه الظلم واستلاب أرضه فلسطين.. كان أحد الشعراء الرافضين؛ من خلال "عيون الموتى" التي تمر "على الأبواب" وشبابيك القرى وتتوسل ألا يهال على الدم الغالي التراب وتحض على رفع راية المقاومة:

 

هي لا تريدُ.. ولا تعيدُ

رثاءنا.. هي لا تساوم

فوصية الدم تستغيث بأن تُقاوم

في الليل دقوا كل باب

كل باب.. كل باب

وتوسلوا ألاّ نهيل على الدم الغالي التراب

قالت عيونُهُمُ التي انطفأت لتشغلنا عتاب

لا تدفنونا بالنشيد وخلدونا بالصمود

إنا نُسمِّد ليلكم لبراعم الضوء الجديد

وفي قصيدة "بطاقة هويّة" يظهر توعده للمحتل، مذكرا إيّاه بأرضه السليبة:

سجل

أنا عربي

سلبت كروم أجدادي

وأرضا كنت أفلحها

أنا وجميع أولادي

ولم تترك لنا ولكل أحفادي

سوى هذي الصخور

فهل ستأخذها

حكومتكم كما قيلا

إذن

سجل برأس الصفحة الأولى

أنا لا أكره الناس

ولا أسطو على أحد

ولكني إذا ما جعت

آكل لحم مغتصبي

حذار حذار من جوعي

ومن غضبي

وينضم إلى موكب شعراء الرفض هؤلاء أحمد مطر من العراق بلافتاته الصغيرة الثائرة على الإمبريالية والطغاة؛ ويترجم ذلك في قصيدة "حالات":

بالتّمادي

يصبح اللّص بأوروبا

مديرًا للنوادي..

وبأمريكا

زعيماً للعصاباتِ وأوكارِ

الفسادِ.

وبأوطاني التي

مِنْ شرعها قطع الأيادي

يُصبِح اللّص

رئيساً للبلادِ

وعلى نهج السابقين أعلاه، يسير الجنوبي الثائر أمل دنقل، مُحوّلا الشعر إلى رئتين يُتنفس بهما:

أيّها الواقفون على حافة المذبحة

أشهِروا الأسلحة!

سَقطَ الموت وانفرط القلب كالمسبحة

والدم انساب فوق الوِشاح!

المنازل أضرحة

والزنازن أضرحَة

والمدى.. أضرحة

فارفعوا الأسلحة

واتبَعُوني!

ويُعلِن تبرُّمه وتهكمه من الأنظمة العسكرية التي لم تطلق يومًا رصاصة تجاه العدو بل توجهها نحو الداخل حيث الشعب الأعزل:

قلت لكم في السنة البعيدة

عن خطر الجندي

عن قلبه الأعمى، وعن همّته القعيدة

يحرس من يمنحه راتبه الشهري

وزيّه الرسمي

ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء

والقعقعة الشديدة

لكنه.. إن يحن الموت..

فداء الوطن المقهور والعقيدة:

فرّ من الميدان

وحاصر السلطان

واغتصب الكرسي

وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة

في السودان، لَعب الشعر دورًا بارزًا في حركة النضال ضد المستعمِر، كما مثّل إحدى أدوات ثورتيْ أكتوبر 1964 وأبريل 1985، وما زال حتى يومنا هذا يلهب حماس وحناجر الجماهير الثائرة؛ فالحِراك الدائر الآن في السودان، أو ما يسمى بثورة 19 ديسمبر، يُزين لافتاته ودعوات الخروج إلى الشارع بأشعار شاعر الشعب محجوب شريف وحميد والقدال ومحمد المكي إبراهيم... وغيرهم.

وربما تقفُ قصيدة "الشيخ فرح ود تكتوك" في عهد الدولة السنارية (1821-1504) "يا واقفًا عند أبواب السلاطين/ ارفق بنفسك من همٍّ وتحزين"، أنموذجا رمزيًّا يحمل في دواخله الرفض المبطن للسلطة بالترفّع عن مجالستها.