شنطة وقفص ولقطة (قصص قصيرة)


د. قائد غيلان | اليمن

1. شنطة:
كان يخيّل إلي أن في كلِّ شنطةٍ نسائية عددٌ من الفراشاتِ الملوّنة المتأهّبة للفرار، وكنت أعتقد أن قوسَ قزح يتشكّل داخل الحقيبة عطرا وأدوات تجميل ومرايا ملوّنة وأحجارا كريمة وخواتم عقيق وأسورة ذهبية، إلى أن فتحت شنطتها اليدوية أمامي، وكانت تلك أول مرّة أرى شنطة يدوية نسائية من الداخل، صرفت نظري إلى الجهة الأخرى، ثم أعدت النظر كرّتين، نظرت وكانت خيبة أمل شديدة، أُصِبت بعدَها بفوبيا النظر أو اللمس أو الاقتراب من وإلى الأماكن الغائرة والداكنة والمغلقة، وحتى الآن كلّما رأيت شنطةً يدويةً نسائية تصيبني رعشةٌ ليست غريبة، تحمرّ أذناي ووجنتاي، وينتشر الدّم بسرعة إلى مناطق مشمولة بقرار حظر التجول ليلا ونهارا، تتعرّق كفاي وجبهتي، أصبح أشبه بالملدوغ، لكأني دبٌّ خرج لتوِّه من سباته الشتوي، وكأن شنطتَها خليّةُ نحلٍ في موسم هيجانِها ووقت حصاد العسل ..

2. قفص:
لا أتذكر أحلامي بدقة، لكن هذا الحلم أتذكر تفاصيله، وأتذكر ملامحَها وصوتَها جيدا، فقد رأيتُها تحمل عصفورَها في كفِّها وتناولني إياه، رغم إنها اشترطت ألا تسلمني إياه إلا في قفص أنيقٍ وجديد، لم يكن عندي حينها قفصٌ مناسب، وحتى إن بحثتُ لن أجد قفصاً مناسباً في مدينة أكلتِ الحربُ كلَّ حدائقِها الجميلة، قطعتُ شارعاً وبعضَ الحارات باحثاً عن قفصٍ يليق بها وبعصفورها الأزرق الجميل، والمرأةُ مازالت ممسكة به بإحدى يديها وأحيانا بكلتاهما  في انتظار أن آخذه منها.
استيقظت صباحا وخرجت متجهاً إلى عملي، قبل أن أصعد الباص وجدت المرأة ذاتها تناولني العصفور ولكنها متمسكة بالشرط، عند مقر عملي كنت أجدها تسبقني قبل كل باب وعند كل مكتب. طلبتُ إعفائي من بقية دوام اليوم، وعدت إلى البيت، في الطريق كانت ترافقني عند كل محطة، حتى وصلت باب المنزل، التفتُّ فإذا بها تعيد العصفور إلى مكانه الآمن، وتقول بنبرة يائسة: حين تفيق من حلمك ستجدني أنا والعصفور والقفص في انتظارك ..


3. لقطة:
ظلّ يطلبُ منه هاتفاً جديداً منذ أكثر من عام وهو يرفض بشدة، لأن الهواتف الحديثة حسب ظنّه تفسد أخلاق الشباب. يئس الابن من ممطالةِ أبيه ورفضه المتواصل. ذات يوم توصّل إلى حيلة وحلّ، إذ عقد مع والده صفقةً طريفة، قال له اشترِ لي هاتفاً حديثاً مزوّداً بكاميرا عالية الدقة، وسأكون مصوّرَك الشخصي ووزيرَ إعلامِك، فأصوِّر كلَّ حركاتِك وسكناتِك على أنها أحداثٌ تاريخية وإنجازاتٌ وطنية؛ فعندما تخرج لتناول الفطور في المطعم، سأنشر أنك خرجت تتفقّد أحوال المطاعم وتتأكد من نظافتها ومدى التزامها بالمعايير، وعندما تصطحب ابنك الصغير إلى المدرسة، سأكتب انظروا كيف يهتم بالطفولة، وعندما تأخذ زوجتك لتراجع الطبيبة سأكتب أنه يهتم بالأمومة ويرعى بنفسه حقوق النساء، وحين تذهب للسطو على المعونات الغذائية التي تصرفها اليونسيف سأنشر صورتَك وتعليقاً يقول إنه يتفقّد منظمات المجتمع المدني ويراقب أداءها عن كثب.
 سأصوّرك وأنت نائم وأكتب " حَكَمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ"، وأصوّرك في سيارتك وأكتب " وألَـنّا له الحديد"، وأصوِّرك وأنت تضحك وأكتب " ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسمُ، وأخرى وأنت تبكي وأكتب "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" ..
باشر الابن عملَه باقتدار. وذات يوم دخل  إلى مقهى فخم، التقط بهاتفه الحديث جداً صورة لذلك الرجل الجنتلمان الجالس مع عشيقته، ابتسم له ابتسامة ماكرة وقال: اطمئن يا أبي، سأكتب في المنشور المرفق بالصورة: للمرّة الأولى يتم اختيار مواطن يمني لأداء مشهد تمثيلي في فيلم عالمي جديد بعنوان: (Who dances better ?)

 

تعليق عبر الفيس بوك